الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
مابعد اتفاق الأحزاب الكردية السورية
صلاح بدر الدين

نشطت وسائل الإعلام اليومين الأخيرين في متابعة ملف اتفاق الأحزاب الكردية السورية، واعتبار قدوم المبعوث الأمريكي السيد “جيمس جيفري” إلى القامشلي والحسكة ليشرف على إعلان الاتفاق، فيما تتضارب الأنباء وسط تكتم أمريكي حول مدى صحة إشرافه المباشر على إعلان الاتفاق (العتيد الموعود) أو تكليف غيره بالمهمة، خاصة وأنّ ماتسرّب عنه يوحي بأنّ مهمته لا تقتصر على هذا الملف، بل سيعمل جاهداً على إقناع كل الأطراف الكردية والعربية، شرق الفرات، للابتعاد عن النظام والروس، والمضي قدماً مع التوجهات الأمريكية وتحت مظلتها.


إذا تركنا العموميات والتمنيات في الأوساط الشعبية بشأن موضوع وحدة الكرد السوريين أو اتّحادهم أو توحيد صفوفهم أو إجماعهم، وهي بطبيعة الحال تنبع من مشاعر وجدانية أو قومية مشروعة مهما تباينت المنابت الاجتماعية والمناطقية والرغبات الخاصة، ولاشك أنّ جميع شعوب العالم يتشاركون في مثل هذه الأماني المحقّة الرامية إلى السلام المجتمعي والوئام والعيش الرغيد والتطور الطبيعي، نحو آفاق التقدّم الاقتصادي والاجتماعي.


منذ عقود، وفي مختلف المراحل، وخصوصاً ما بعد الهبة الكردية الدفاعية الآذارية (٢٠٠٤)، التي لم تسعفها الظروف الذاتية والموضوعية لتتحول الى انتفاضة وطنية عامة حقيقية، والتي أفرزت خلاصة واضحة، بل درساً لن ينسى عن عجز الأحزاب الكردية بطبيعتها التنظيمية والفكرية والسياسية في قيادة النضال، بجانبيه القومي والوطني، وكذلك في الأعوام التي تلت اندلاع الثورة السورية، حيث بات من حكم المؤكد أنّ تلك الأحزاب مضافاً إليها حزب “ب ي د”، الحديث العهد، والمسميات الأخرى المرتبطة بها، لم تكن بمستوى الحدث السوري، وغير مؤهلة لتمثيل الغالبية من الكرد السوريين وتحقيق طموحاتهم.


في خضم هذه الوقائع، وضمن تلك الملابسات، تعرضت الأحزاب الكردية الى هزّات زلزالية وفقدت معظم أعضائها وأنصارها، وبينهم مناضلون صادقون فقدوا الثقة ليس من قيادات أحزابهم فحسب، بل من جدوى العمل الحزبي المتأخر عن الركب بمجمله، وخسرت الأحزاب خيرة الكوادر، مما ضاعفت من أزماتها الداخلية ودفعتها أكثر إلى مهادنة النظام المستبد إلى حدود بعيدة، وإلى فقدان استقلاليتها في القرار السياسي، والاعتماد الكامل على العامل الخارجي، وهذا ما عطل آلية استيعاب مايجري من حولها ونضوب منابع الفكر والوعي وعدم القدرة على تحضير أجيال جديدة لقيادة النضال.


نهجان مختلفان في الدعوة إلى (وحدة الكرد السوريين)


منذ البداية، اقتصرت مساعي “الوحدة الكردية السورية” على إرادتين ونهجين مختلفين، واحد يتبناه الوطنييون المستقلون ومجاميع الشباب ومنظمات المجتمع المدني، الناشطة أكثر بين الكثافات الكردية السورية بالمخيمات والبلدان الأوروبية والأمريكيتين وأستراليا (بحسب التقديرات، هناك ما يربو على أكثر من نصف الكرد السوريين يقيمون بالخارج، ومعظمهم من الشباب، وشاركوا في التظاهرات الاحتجاجية ضد النظام وتعرضوا للاعتقال)، وتميز وسط الوطنيين المستقلين حراك “بزاف” الذي قدم مشروعاً متكاملاً منذ أكثر من ستة أعوام، من أجل إعادة بناء الحركة الكردية السورية من الأساس، من خلال مؤتمر جامع بغالبية مستقلة ومشاركة الأحزاب، وما زال مشروعه قيد النقاش والتداول عبر اللقاءات التشاورية التي عقدت بالمئات، كما وقّع عليه الآلاف عبر مواقع التواصل الاجتماعي.


لا شك أنّ المنطلق الأساسي لدعاة هذا النهج يستند إلى رؤية تعتبر أنّ الحركة القومية الوطنية الكردية لا تقتصر على الأحزاب، خصوصاً بعد ما يقارب المائة عام على ظهور أول حزب منظم، ومن دون إغفال الكم الهائل النوعي لإنجازات بعض الأحزاب وتراثها الثمين في الإصلاح وإعادة البناء والتعريف، فكرياً وثقافياً وسياسياً، في الستينات والسبعينات والثمانينات، فإنّ التكاثر غير المبرر والانقسامات والتمحور حول أجندات خارجية قد أخلّ بالعمل الحزبي المتبع، وأنّ الحركة أوسع من ذلك بكثير، وتشمل جميع طبقات المجتمع الكردي وفئاته العمرية، إلى درجة أنّ الوطنيين المستقلين ضمن الجيل الناشئ من النساء والرجال لوحدهم يشكل الكتلة التاريخية الأهم في مستقبل الحركة، وأنّ الأحزاب تحوّلت إلى كتل مناطقية وعائلية وباتت مصدراً للمحاصصات المصلحية الضيقة، ولم تعد موئلاً للمناضلين الأحرار إلى جانب انغماسها بمحاور، وتورّطها في علاقات مع نظام الاستبداد وكذلك القوى المحتلة لبلادنا.


من تلك الرؤيا، فإنّ أصحاب هذا النهج لا يراهنون على إمكانية استمرارية الأحزاب بشكلها الراهن وطبيعتها في قيادة النضال الوطني الكردي السوري بنجاح، لأنّها لا تتمتع بالشرعية الشعبية ولا بالإجماع القومي، ولم تنتخب من الشعب، وليست مخوّلة بإقرار المصير السياسي للكرد السوريين، بل يرون أنّ الأحزاب تعيش أزمات مضاعفة، أزمة تنظيمية، أزمة الشرعية، أزمة الفكر، والموقف السياسي إلى جانب الأزمة الثقافية التي تتمحور في عدم الثبات على مبادئ واضحة وحاسمة بشأن تعريف القضية الكردية وسبل حلّها ومسائل استقلالية القرار الكردي والشخصية الكردية المستقلة وكذلك حول الموقف من نظام الاستبداد والبديل والعلاقة مع الشركاء السوريين، بمختلف مكوناتهم وقواهم الديموقراطية المعارضة، وبالتالي فإنّه من غير المعلوم على ماذا ستتفق الأحزاب من حيث الجوهر وليس من حيث شكل البيانات المنمّقة.


أما النهج الآخر، فتتبناه قيادات الأحزاب الكردية “الخمسة والعشرون والعدد في ازدياد” وترى أنّ في اتفاقها حول المحاصصة والتشارك في مسؤوليات “الإدارة الذاتية” والانضواء في (الهيئة العليا أو المرجعية) التي ستتشكل من نحو مائة عضو، وستكون على الأغلب بمثابة هيئة استشارية، لأنّها ليست هيئة تشريعية منتخبة، ولا تنضم إلى الهيئات التنفيذية القائمة منذ أعوام تحت سلطة “ب ي د”.


الأمر الآخر غير المعلوم، هو مدى مسؤولية الهيئة العليا أو المرجعية وحدود صلاحياتها بشأن القضيتين، السورية والكردية، وهل ستكون بحدود (شمال شرق سوريا) أو المحافظات الثلاث (الحسكة– الرقة– دير الزور)، أم مختصّة بكرد سوريا في مناطقهم الثلاث: الجزيرة وكوباني (عين العرب) وعفرين؟، ثم ماذا بشأن المعتقلين والمخطوفين، والمسألتين العسكرية والأمنية في المناطق الكردية، وكذلك السياسات التي تتبع بشأن الملف الكردستاني، خصوصاً إقليم كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني.


هناك أيضاً وعلى ضوء التصريحات الإعلامية المستقوية (بالحليف الأمريكي)، الذي سيشرف على اتفاق الأحزاب وموقفه معروف على الأقل، يقف ضد أي تمدد روسي في الساحة الكردية، فماذا سيقول حول علاقات “الإدارة الذاتية” و”ب ي د”، كأحد طرفي الاتفاق مع الجانب الروسي، والالتزام بتعهدات تجاهه إلى جانب علاقات “المجلس الكردي”، مع أطراف أخرى قد لا تروق للطرف الآخر؟.


المسألة الأخرى تتعلق بتمثيل المستقلين، والسؤال هنا، هل ستنطلي ادعاءات الأحزاب على الجانب الأمريكي بأنّها الممثل الشرعي الوحيد للكرد السوريين، في حين أنّ الوطنيين المستقلين يشكلون كما ذكرنا أعلاه الغالبية الساحقة في مجتمعنا، والغريب في الأمر أنّ الطرفين الحزبيين أقنعا أنفسهما بأن يختار كل طرف ستة مستقلين؟.


كما أرى وأعتقد بأنّ هكذا أحزاب لن تحقق أكثر مما هو مرسوم ومعلن ولعل الحسنة الوحيدة (وأتمنى أن تكون هناك حسنات أخرى) من اتفاق طرفي الاستقطاب الحزبي الكردي، هي احتمال زوال التخندق والتوتر في الشارع الكردي، وإفساح المجال لعودة المهجرين والنازحين إلى بيوتهم وأماكن عملهم وتعاد الدورة الاقتصادية كما كانت، وأن تزال كل العوائق أمام حرية الصحافة والإعلام والفكر والرأي السياسي والتنقل من وإلى الخارج بكل حرية.


والخشية هنا لأصحاب الآمال المعقودة أن تحصل في الساحة الكردية أو في منطقة شمال شرق سوريا نوع من “خفض التصعيد”، كما حصل في مناطق سورية أخرى، بإشراف الروس والإيرانيين ورضى النظام ومشاركة فصائل معارضة أو تتقرر إجراءات على غرار توصيات (أستانا وسوتشي) ثم تضمحل بمرور الوقت، وكل ذلك لن يكون لمصلحة لا الكرد ولا العرب ولا المكونات الأخرى.


أما الأماني الكبرى وحتى المتوسطة فيبدو أنّها مؤجلة ولن تتحقق إلا بالعودة إلى الشعب بإعادة بناء الحركة الكردية من جديد واستعادة شرعيتها وانتخاب من يمثّلها، لمواجهة التحديات القومية والوطنية وإعادة جسور التواصل والتضامن والعمل المشترك على الصعيد الوطني، وإصلاح العلاقات الكردستانية وتنمية الشخصية الوطنية الكردية السورية المستقلة، وإنجاز المهام والواجبات بدل تأجيلها أو ترحيلها إلى المجهول.


ليفانت – صلاح بدر الدين

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!