الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • لماذا أخطأت الثورة السورية في قواعد الاصطفاف؟

لماذا أخطأت الثورة السورية في قواعد الاصطفاف؟
عبد الناصر الحسين

كما كانت الثورة السورية عفوية في انطلاقتها فقد احتاجت إلى اصطفافات عفوية كذلك، لكن ذلك لم يحدث للأسف، فقد تدخلت المؤامرة والتحزب والتوجهات الراديكالية لتفرض على الشعب السوري اصطفافات سياسية غير طبيعية، جعلت من الصديق عدواً (أو شبه عدو)، ومن العدو صديقاً أو (نصف صديق).

لولا وجود «الإخوان المسلمين» كمتسلطين على الثورة السورية ومدعومين، لكنا رأينا علاقات الشعب السوري مع المجموعة الدولية مختلفة عما تم تصنيعه وتكريسه من ميول مزاجية تجاه تلك الدولة أو ذلك الكيان. فالاصطفاف العفوي فطري بطبيعته يرافق الإنسان في كل الأحداث التي يواجهها، ولا يحتاج إلى تعلم ودراسة.

وفي السياسة عندما تكون دقيقاً في تحديد عدوك المركزي الأول وصديقك المركزي الأول، فسوف تصطف بقية القوى الأخرى في وجدانك السياسي تلقائياً، ودون عناء أو تفكير، وسوف تتموضع سياسياً في المكان الذي فرضه العدو الأول والصديق الأول، وسوف تجد الأشخاص المنخرطين في قضيتك يشعرون بالمشاعر ذاتها التي شعرت أنت بها، وبدرجات الشعور ذاتها تقريباً.

فالعدو الأول يفرض كثيراً من إيقاع توجهاتك السياسية نحو الآخرين، فأنت حتماً ستنفر من الجهات المتحالفة معه، أو تحذر منها، وسوف تتقارب مع أعدائه، على مبدأ «عدو عدوي صديقي». وكلما كانت العداوة والصداقة في مستويات عالية كلما كان الاصطفاف التلقائي أكثر وضوحاً، وأسهل انتظاماً.

في الثورة السورية رصد الشعب السوري أعداءه بناء على المعاينة الحسية والمشاهدة العينية، لكن الجهات الحزبية المشبوهة جاءت لتفرض على السوريين قائمة من الأعداء لم يمارسوا أي عدوان على السوريين، مستخدمين كلمة «لولا».

فلسفة «لولا» أنتجت كثيراً من الأعداء الذين عادة ما يكونون أصدقاء مفترضين، فبينما كان الشعب السوري يتلقى الضربات من العدوان «الروسي والإيراني والأسدي» بدأت مسامع الناس تمتلئ بكلمة «لولا»، ليقول قائلهم: لولا أمريكا لما تدخلت إيران ولما تغوَّلت روسيا، ولولا إسرائيل لما دخل حزب الله والمجموعات الطائفية الأخرى، ولولا الدعم السعودي مثلاً لما فسدت الثورة، تلك «اللولات» كانت كافية لأن تصنع للسوريين أعداء لم يمارسوا عليهم الظلم والعدوان، بل ربما قدموا لهم كثيراً من الدعم والمناصرة.

كما أن فلسفة «تحت الطاولة»، أنتجت كثيراً من الأعداء، فحين لا يجد هؤلاء أدلة حقيقية على عدوانية جهة ما للشعب السوري، فسرعان ما يتحدثون عن «تحت الطاولة» حتى صار جاهلهم بارعاً في الحديث عما يوجد تحت الطاولات، إلى درجة يمكن تسميتها بـ «سياسة من لا سياسة له».

وبما أن الأجواف العاطفية للإنسان محدودة، فسوف تمتلئ بالأعداء المفترضين، وتتفرغ من الأعداء الحقيقيين، لينشأ وعي جديد مزيف لا يعادي عدوه الحقيقي، بقدر ما يعادي عدوه المفترض، مما يؤدي إلى تبعثر الاصطفاف السياسي، فيتبعثر معه الموقف السياسي، فيتولد خطاب سياسي، يهاجم الأصدقاء، ويسكت على الأعداء.

لقد تربص المتآمرون على الثورة السورية بالمزاج العام للشعب السوري، يمنعونه من التمصلح مع أي جهة، أو مجرد أن تحدثه نفسه -مثلاً- بطلب التدخل من أي جهة قد تنقذه مما يلاقيه من «محور المقاومة» البغيض، مرددين عبارة «نرفض التدخل الخارجي»، تاركين جحيم التدخل الإجرامي منفتحاً من كل المنافذ.

إن شراسة الأعداء الحقيقيين الذين واجههم الشعب السوري، كانت يجب أن تنسيهم أي أعداء محتملين، لكن أيديولوجيا السياسة حشرت في وجدان السوريين كمية كبيرة من الأعداء حتى صار سكان الكوكب كلهم أعداء للشعب السوري.

لقد كان هناك تعمُّد واضح من المتسلطين على الثورة إغفال الحديث عن روسيا وإيران، وكلما ورد ذكرهم، حضرت عبارات معلَّبة تستحضر الأعداء المفترضين، تقول: «لولا هذا وذاك لما تدخل هؤلاء»، أو الادعاء بأن دولاً أخرى خليجية تموِّل الحرب الروسية على الشعب السوري، لصرف شحنة العدوان عن العدو الحقيقي الذي هو-كما يبدو- حليف مفترض لهم، ولا يجرؤون على البوح به.

وبالمقابل، تجد فريقاً آخر يصر على التبرير للتدخل التركي، مهما أساءت «تركيا» لسوريا، لتصويرها بأنها الحليف الوحيد للشعب السوري، على الرغم من أخذها بمسار «أستانا» بدلاً من «جنيف»، وتقويتها لتنظيم القاعدة على حساب فصائل الثورة، وتفضيلها الصداقة مع إيران على صداقة العرب والتحالف مع روسيا بدلاً من الغرب، وحمل الشباب السوريين ليقاتلوا خارج الحدود، ومع كل هذا نجد أن هناك إصراراً على الهرولة خلف تركيا على ما تحمله الهرولة من مخاطرة بحق الثورة السورية ومنتجاتها.

عموماً، الاصطفاف العفوي التلقائي كان بمقدوره أن يقدم كثيراً من الفوائد للشعب السوري الحر، لولا تدخل الحزبيِّين ليحرفوا الأمور باتجاهات أخرى.

 

ليفانت - عبد الناصرالحسين      

    

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!