الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
للمحاكمة لا للحكم
عبير نصر

بعدما حوّل المجتمعَ السوري إلى كيانٍ مدمر من الناحيتين الاقتصادية والمؤسساتية. ومن الناحية البشرية صار نصفُ السوريين لاجئين في عشراتٍ من دول العالم، كما صار ربعهم قتلى ومعتقلين ومختفين وجرحى معاقين. وبعدما جعل ما تبقى من شعبه تحت خطّ الفقر والقهر، ليتدهور مستوى الحياة الإنسانية إلى حدود غير مسبوقة، خاصة في مناطق سيطرته، ما يزال بشار الأسد يتربع على عرشه المقدس، يمارس سيادةً محدودة على أرضٍ باتت فريسةً لقوى أجنبية متناحرة.


وخلال حربٍ باهظة الثمن استخدم النظامُ السوري فيها الأسلحةَ الكيميائية ضد مناطق مدنية لإخضاع جيوب المعارضة فيها، كما شنّت طائراته غارات كثيفة بالبراميل المتفجّرة على مناطق مأهولة بالسكان، مخلّفة الموت العشوائي. وما زاد الطين بلّة تصاعد نفوذ الفصائل الجهادية الذي عزّزه الإفراج الجماعي عن مقاتلين من تنظيم القاعدة من السجون السورية، فنجح العنفُ المفرط في أداء تنظيم داعش وقدرته على جذب مقاتلين من أوروبا وخارجها، في زرع الخوف لدى الغرب، لينصبّ اهتمام العالم على قتال الجهاديين، متناسياً نضال السوريين، وسرعان ما عاد الأسد ليقدّم نفسه كحصنٍ منيع ضد الإرهاب. خلال هذا كلّه تعامل الشعب السوري مع ثورته بشكلٍ عاطفي ورومانسي، محققاً انتصاراً وحيداً تمثل بتصدّع جدار الخوف العظيم، وتحطّم أصنام الصمت.


وسط كلّ هذه المعطيات الكارثية أُعلن ببساطةٍ مُستفزِّة عن تنظيم الانتخابات الرئاسية الثانية منذ بداية الحرب السورية، في سياق أزمةٍ يشهد فيها اقتصاد هذا البلد المدمر تدهوراً كبيراً. ومنذ شهور بدت تحضيراتُ النظام السوري، العسكرية والأمنية والسياسية، الإعلامية والخدمية، جاريةً على قدم وساق، استعداداً لفصلٍ جديد ضمن مسرحيةٍ انتخابية مكررة، يعيد إنتاج أدوات النظام ذاتها، ويحاول فرض وقائع على المشهد السياسي، بغية دفع الفاعلين المحليين والدوليين للتعامل معها لسبع سنواتٍ مقبلة على الأقل.


أما في الداخل السوري، فقد وعد الأسد حاضنته الشعبية بالانتصار في الحرب، وتعويضهم والإغداق عليهم، رغم ما تعانيه أسوة بكل أطياف الشعب السوري، فتقرّب منهم عبر وجوه ناعمة، وأموالٍ طائلة حصل عليها بعدما سلب أموال رامي مخلوف، ومنها "جمعية البستان" التي جعل منها جمعية إنسانية تحمل اسم "جمعية العرين"، توزع القروض والمساعدات الغذائية والأشجار على المزارعين. كما حاول التقرّب منهم عبر أساليب مختلفة على رأسها إنعاش الموظفين بمنحةٍ مادية شحيحة، وزيادةٍ مقتضبة في المرتبات الشهرية من أجل تخفيف الضغوط على الناس. بيد أنّ الأمر غاية في الصعوبة والتعقيد بسبب ما تعانيه البلاد من تدهورٍ اقتصادي، جعل سوريا تتصدر قائمة الدول الأكثر فقراً بالعالم، بنسبة بلغت 82.5%.


في هذا السياق، أعلن معاونُ وزير الخارجية لدى النظام السوري (أيمن سوسان)، في بثّ مباشر على القناة السورية الرسمية، أنّ كلاً من ألمانيا وتركيا أبلغتا دمشق رفضهما إجراء الانتخابات الرئاسية السورية على أراضيها، وبينما لم يصدر أيّ بيان رسمي من قبل الحكومة الألمانية أو التركية، يؤيد أو ينفي الادعاء، أثار الإعلانُ الجدلَ على مواقع التواصل الاجتماعي. ورأى بعض المحللين أنّ النظامَ السوري استثنى هذه الشريحة المهمة بأعدادها الضخمة، لإدراكه مدى معارضتهم للأسد، لذلك تخلص منهم عبر هذا التكتيك. بينما اعتبر آخرون أنّ قرارَ إلغاء الاقتراع للانتخابات الرئاسية في السفارتين على الأراضي التركية والألمانية، صفعةٌ جديدة موجهة للنظام السوري لمخالفته القوانين الدولية.


ورغم تشكيكِ العالم في نزاهة هذه الانتخابات، ورفضٍ غربي وأمريكي الاعتراف بها نظراً لظروف إقامتها في ظلّ غياب البيئة الآمنة والمحايدة، واستثناء ملايين السوريين الموزعين بين نازح ومقيم ضمن المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، ومناطق سيطرة الإدارة الكردية شمال شرقي سوريا، واستبعاد المعارضين المقيمين في الخارج، لاسيما أنّ النظام السوري يشترط على كلّ ناخب اصطحاب جواز سفر ساري الصلاحية ممهوراً بختم الخروج من سوريا. رغم هذا ستجري الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد التي ستؤدي إلى فوز بشار الأسد بصورة مؤكدة، وخلالها يعلن الأخير عن انتصاره في الحرب على السوريين وثورتهم، فظنّ أنّ بقاءه في منصبه واستمرار وجود نظامه، هو النصر بعينه.


وبينما يسيطر النظام السوري على 15% فقط من حدود سوريا، على اعتبار أنّ الحدود هي رمز السيادة والقوة. في وقتٍ تسيطر فيه القوات التركية والأمريكية والكردية أو المجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود. وبينما يتابع الأسد الابن سياساته القمعية البائدة بدلاً من الذهاب لملاقاة الأطراف الفاعلة نحو حلّ سياسي على أساس القرار الدولي 2254، مقابل استعدادهم للمشاركة في إعادة إعمار سوريا. يبقى السؤال الجوهري هنا: أي "انتصار" هذا بعد كل ما فعله الأسد ونظامه بالدولة والمجتمع في سوريا، من قتلٍ وتهجير طوال عشر سنوات مضت، كان أهم نتائج هذا التدمير الممنهج ابتلاع السلطة للدولة، لتغدو مؤسساتها وأجهزتها مجرّد أدواتٍ لعصاباتٍ إجرامية مغرضة، تسيطر بالقوة والإرهاب ليس أكثر. والجدير ذكره على سبيل التحليل استناداً إلى معطياتٍ كثيرة، أنّ الأسد الذي يعيش في (شرنقة) ربما لم يكن حتّى على درايةٍ تامة وتفصيلية بالديناميكيات الداخلية لأجهزة الدولة التابعة له، خصوصاً الأجهزة الأمنية الجامحة. فحين تحوّلت سوريا إلى إرثٍ عائلي أصبحت أقرب إلى الدولة الدكتاتورية المجزّأة، التي تنتشر فيها الإقطاعيات الشخصية، ما جرّد المؤسسات العامة من الفاعلية والأهمية.


ولا بدّ من الإشارة إلى حال المعارضة البائسة ومؤسساتها المفككة التي تفتقد الفاعلية التي تمكنها من الانخراط الطبيعي والتأثير الحقيقي في مسار الانتخابات الرئاسية السورية. ويعود هذا لأمورٍ عديدة أهمها عدم وجود برامج وخطط استراتيجية، إضافة إلى غياب القيادة الموحدة، وارتهان المعارضة السورية لعدة دولٍ في المنطقة يؤكد استحالة استقلالها وتصرفها على نحو استراتيجي ومؤثر. ورداً على الاستحقاق الرئاسي القادم أطلق الائتلافُ السوري المعارض حملةً إلكترونية تحت وسم "للمحاكمة لا للحكم"، لرفض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 26 أيار/ مايو الجاري. وقال نائب رئيس الائتلاف، عقاب يحيى، إنّ الحملة تهدف إلى فضح "مسرحية" الانتخابات، المعروفة النتائج مسبقاً، من خلال تسليط الضوء على عدم شرعيتها. وأضاف أنّ مكانّ بشار الأسد هو محكمة العدل الدولية، وليس البقاء في حكم سوريا، التي قتل وهجر شعبها، مؤكداً أنّ الحملة تنفّذ بمشاركةِ مجموعةٍ من الدوائر التابعة للائتلاف.


في الحقيقة طريقُ الثورة اليتيمة طويل جداً، ومن زعموا أنهم أصدقاء لها، تبيّن زيف ادعائهم لاحقاً، بينما اتفق الجميع على تصفيتها، وتصفية آمال الشعب السوري لأنّه قرر أن يكون، في زمن لا يسمح فيه بالخروج عما يقرره النظام المستبدّ. وبلغ تعقيد الأزمة السورية حداً أنه برزت من أولوية إسقاط الأسد ونظامه، قضايا أخرى: قضايا الإرهاب، والحلّ السياسي، وقضايا اللاجئين، وقضايا المعتقلين، والقضية الكردية، وهلم جرا... ووسط هذا الصراع المحتدم والأطماع الإقليمية المستشرسة والصفعات الانتخابية، آن للشعب السوري أن يرتاح أخيراً. فالسوريون دون شكّ تعلّموا أنّ الاستبداد أساس كلّ شر وأنّ الحرية أصل كلّ خير. وعلموا أنّ الشعب الذي يفقد حريته وكرامته يفقد معهما كل شيء: الدين والدنيا والحياة والاستقلال، فإنهم اليومَ لأشدّ حرصاً على الحرية والكرامة من حرصهم على الأمن والحياة.


ليفانت: عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!