-
كنيسة الزيتون.. دمشق
لم أعتقد في يوم بأن الحالة النفسية المضطربة قد يكون علاجها زيارة مكان، لقد نصحني صديقي بأن أحمل نفسي المثقلة بكثير من الفوضى في ترتيب المشاعر وعجقة الأفكار المتناثرة ضمن فناء عقلي وأقدم إلى دمشق كي أزور مكاناً مقدساً ظناً منه بأن للأماكن أثراً إيجابياً روحانياً سيعالج فوضيتي. وأنا لم أقاوم فكرته نتيجة رغبتي وفضولي لرؤية تفاصيل كنيسة سيدة النياح (كنيسة الزيتون) التي أخبرني عنها والواقعة في حي باب شرقي ضمن دمشق القديمة
استدليت على موقع الكنيسة من العابرين معي في ذات الطريق كأن وجهتهم هي وجهتي أو الناس هنا تتوحد وتندمج مع الغرباء حتى لا يشعروا بغربتهم، لامست الجدران طوال طريقي كأنها عصا ضلالتي، أحسست بأصوات الشبابيك، شممت رائحة أحاديث القاطنين. أنا عادة أخاف القطط لكنني في دمشق أطعمتها فتات الخبز. ألقيت السلام على الكثيرين دون معرفة سابقة بهم، فهنا الناس يبتسمون وأنا أرى في مبسهم العنوان والسكينة.
ظللت أمشي في زواريب الحي تائهة بأقدامي لكن متزنة في عقلي حيث لم أسمع ضجيج أفكاري ولم أشهد على فوضى في مشاعري، كانت مسافة الأمان بيني وبين ذاتي في أعلى معدلات هدوئها. أعجبني الشعور، يبدو أنني أنتمي للغربة فيها ألمح ظل من أنا.
اتصلت بصديقي أخبره بأنني قد وصلت ليرافقني، ولكن قال لي بأن هذه الرحلة لي وليس له علاقة بها. يجب أن أبقى وحيدة. للحقيقة لم أفهم رسالته التي حاول إيصالها لي ولكن رغم قلقي من غيابه امتلكني شعور بأن المكان الذي أوشكت الوصول إليه يحتوي جزءاً مني، يجب أن أصله لاكتشفه وكأنني قطعة مفقودة من جدارية فسيفسائية قد أفسد غيابها جمالها، لذلك هذه رحلتي أنا ويجب أن ألتقي مع فقداني لأكتمل.
استمريت في طريقي وبدأت بسؤال الجميع عن مقر كنيسة الزيتون وقد اتفقوا جميعاً بأن يعبروا لي عن مساعدتهم للوصول من خلال التأشير بأصابعهم مع ذكر أسماء الجادات والمحلات أو الإشارة لشجرة ما مميزة في خيال مرشدي أو الدلالة على غصن الياسمين المتدلي من شرفة شباك باللون القرمدي وكأن هذا الحي يسكنه شخص واحد قد سألته وأجابني.
هي هكذا دمشق لا ينام فيها فقير ولا يتوه فيها غريب. كان لا بد لي أن أتوه قليلاً بحارات الشام القديمة من شدة التفاصيل لكن لكنيسة الزيتون موقعٌ في قلوب أهلها جعلَ وصولي لها أقرب وأسرع.
وها أنا أمامها استقبلتني أشجار الزيتون الكثيفة حولها، وهي السبب الذي لقبت به فقد كان في الأصل اسمها كاتدرائية سيدة النياح فهي من أكبر وأجمل الكنائس الكثالويكية في العالم. عندما دخلت فناءها شعرت بأني ضمن مسافة الأمان التي يرافقها خشوع عظيم وسكينة قد فقدتها، بدأت بلملمة شتات ذاتي، فقد انتميت من لحظتي الأولى إليها، احتوتني بفنائها الواسع، بأصوات أطفالها المشاغبين، بسكينة رجالها المسنين، بهدوء راهباتها، باجتماع كل المراحل العمرية فيها.
ظللت واقفة على مدخلها بضعة دقائق حتى استقبلتني إحدى الراهبات التي لمحت دهشتي وتقدمت نحوي، ألقت سلامها فرددت إليها حاضنةً أجزاء جسدها المتواري خلف عباءة قداستها، لم أشهد من قبلٍ على استسلام لحرب بداخلي مثل هذه المرة، كأنها الحرب قد همدت، كأنها الحرب قد رحلت، كأنها الحرائق قد أطفئت، لقد سمحت لي الراهبة أن احتل هدوءها كي ينتقل لي، شكرتها وأخبرتها عن سبب قدومي وطلبت منها أن ترافقني المكان حتى تشرح لي تفاصيله التي أجهلها وقد حدث ذلك بكل لطف. مشيت خطواتي والتقطت الكثير من الصور والفيديوهات التوثيقية، وما أدهشني بدايةً هو ذلك النقش الواقع في صدر الكنيسة حيث كتب باللغة العربية "على المقادس مذ تظاهر نورها أرختها مظهرة الأنوار". هكذا استقبلني المكان، راهبة ذات حضن يشبه فناء الكنيسة ونقش يدعو الزائرين للخشوع والسكينة.
أطلعتني الراهبة على تاريخ نهضة وبناء الكنيسة حيث كان أبناء الروم الكاثوليك في دمشق يبحثون عن أرضٍ تصلح لبناء كنيسة لهم وقد وجدوا آثار كنيس لليهود من طائفة القرايّين قد أحاطه بستان فسيح من أشجار الزيتون في حارة الزيتون التي تقع بالجهة الشرقية من دمشق القديمة.
وقد كان الكنيس مهجوراً بعد رحيل جميع اليهود منه وكي تتم عملية بيع الأرض حضرَ من مدينة القدس مندوب عن طائفة اليهود القرايّين اسمه روفائيل، لكن عندما أوشكت عملية الاتفاق والبيع للروم دُست بعض العوائق لتعطيل البيع ومنعه، ورغم ذلك فقد حصل الروم على الأرض، وها هي كنيسة الزيتون بفن عمارها البيزنطي شامخة بأجمل تفاصيلها.
الكنيسة ممتدة بشكل عرضي أتاح لي رؤيتها بصورة عميقة أراحت عقلي، رواقها مشيد من الحجارة البازلتية السوداء وفوقها برجان يعلو كل منهما صليب، برجها الأيسر للناقوس أما برجها الأيمن فيتخلله ساعة كبيرة وبين البرجين ترتفع قبة مدهشة ضخمة يعلوها صليب أيضاً.
على جدارها الغربي قد ألصقت هياكل عديدة لفتت انتباهي لكثرتها، ثم دخلنا عبر مدخل خشبي مستطيل الشكل مزجّج وظهر أمامي. الباب الرئيس للكنيس محاط بالرخام الملون حيث تنكشف أشعة الشمس عليه ليبقى قوس القزح مطلاً دائماً، وفي الأعلى رأيت لوحة رخامية مزخرفة جميلة قد كتبت باللغة الرومانية وترجمتها لي الراهبة "أنا أقول لك أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها".
تابعنا طريق الاستكشاف ورأيت ضمن المستطيل الرخامي ذاته إنجيلاً مفتوحاً محفوراً بالرخام وفوق الباب يوجد نصف طاسة رخامية، وعلى جانب الباب الأيمن أيقونة فنية قديمة إطارها من الخشب تعود للقديس جاورجيوس تاريخها يعود لعام 1878 أما بجانبه الأسر فرأيت أيقونة فنية مؤطرة خشبياً للسيدة العذراء تعود لعام 1877.
إن الكنيسة من الداخل فخمة ضخمة وغنية بالأيقونات والهياكل العديدة نمطها بازيلكي، أرضيتها رخامية، تحتوي بابين من جهة الشمال والجنوب ومن جوانبها الشرقية الشمالية الغربية كراسي ملاصقة للجدران تستقبل الزوار ليستريحوا في كنفها كأنها تدرك محبتها في قلوب الجميع.
صعدنا إلى طابقها الثاني وعلى العمود الثالث رأيت قنديلاً خشبياً تمكنت من الصعود إليه عبر درج خشبي لولبي الشكل على طرف شرفته أيقونات خشبية صغيرة للإنجيليين الأربعة والسيد المسيح وبعض الرسل. تحتوي قبة نصف مستديرة محاطة بنوافذ زجاجية ملونة يدخل قوس قزح منها دائماً ليعلن بأن الربيع هنا مستمر.. وفي وسط القبة صليب بيزنطي الشكل ذو أربع أذرع متساوية، على طرفها الأيسر يوجد عرش الأسقف وأما في صدر الإيقونسطاس يتواجد العرش البطريركي الذي تعلوه مظلة خشبية، لاحظت بكثرة انتشار واسع في جدران صحن الكنيسة هياكل رخامية، منها الكبير ومنها الصغير، تضم أيقونات للقدّيسين وللسيدة العذراء ولمشاهد من حياة السيد المسيح، يفصل الصحن عن قُدس الأقداس إيقونسطاس رخامي أبيض اللون جميل جداً مزخرف بتزيينات ودانتيلات ووردات.
هناك ثلاثة أبواب نحاسية كبيرة، أكبرها الباب المقدّس يقع في الوسط وهو بدرفتين حُفر فيهما الإنجيليين الأربعة وإلى جانب كل منهما بابان وقد صعدت إليه عبر ثلاثِ درجات رخامية طويلة حيث يحتوي في طبقته السُفلى سبع أيقونات كبيرة والعرش البطريركي، وفي العُليا 31 أيقونة تتوسّطها أيقونة السيد المسيح وإلى جانبيه الرسل وبعض القدّيسين وهنا أخبرتني الراهبة بأن أيقونات الإيقونسطاس تنتمي جمعها إلى الفنّ الروسي.
تضم الكنيسة عدة مبانٍ مهمة منها الأثري، ومنها الحديث أهمها (كنيسة سيدة النياح الأثرية، الدار البطريركية، دار القديس نقولاوس، مركز التنشئة اللاهوتية، الإكليريكية الصغرى، المحكمة الروحية لأبناء الطائفة، الجمعية الخيرية لفقراء الطائفة، نادي القديس جاورجيوس لرعايا الأطفال، مجموعة من القاعات والغرف للنشاطات، قاعة القديس يوسينوس، بيت الطالبات "الفويية" وهو المخصص لاستقبال الطالبات الجامعيات) مما خلق في فناء الكنيسة حياة مختلفة مجتمع مختلف يحتضن الجميع يرحب بكل زائر بكل محتاج بكل مؤمن بكل ضال بكل مهتدٍ بكل حالم. هي ليست مكاناً مقدساً عادياً إنها أقرب لأن تكون نوراً لا يهدأ.. ربيعاً مستمراً.
هنا كنيسة الزيتون.. هنا الباب الشرقي.. هنا دمشق القديمة هنا أعمق التفاصيل.. وبعد كل هذه التفاصيل التي شاهدتها عيناي، سمعت بها أذناي، خشعت لها روحي.. لم أقوَ على الرحيل فقد وجدت قطعتي المفقودة وترجمت رسالة صديقي.
ليفانت - سالي علي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!