الوضع المظلم
الجمعة ٢٢ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
قواعد الاشتباك وخطوط التماس
باسل كويفي

"خطوط التماس" عبارة تفسر الجغرافيا المكانية حيث ترتسم الخريطة السياسية للعالم بحدود واضحة بين الدول، هذه الحدود هي خطوط التماس، فإذا ساءت العلاقات بين دولتين اشتعلت الحدود بينهما وتحولت إلى خطوط تماس ساخنة تشهد اشتباكات بالأسلحة التقليدية المتوفرة (الهند والصين، إيران والعراق، الجزائر والمغرب…) وهذه الخطوط تختلف جذرياً عن حركات مقاومة الاحتلال لاستعادة الحق.

وهنا تبرز عدم صوابية "صامويل هنتنجتون" في كتابه الشهير "صدام الحضارات" حيث لم يعد هناك أقاليم محددة بخطوط صارمة في الخارطة الحضارية للعالم، في عصر يشهد ثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي والتكنولوجيا المتقدمة جداً والتبادل الثقافي، حيث تداخلت الحدود بين الحضارات، وتداخلت خطوط التماس بينها وكأنها  تخطو نحو التجدد والتطور، سواء كانت خطوط التماس الحضارية حسب تفاسيرهم ، (العولمة الحضارية أو الهيمنة الحضارية)، وبالنتيجة فإن ما تطرحه أحزاب اليمين المتطرفة في إسرائيل عن يهودية الدولة، هو محصلة الخوف من  أن خطوط التماس بين الحضارات تتداخل فيما بينها وكأنها تسير بخطى ثابتة نحو الذوبان، ومُخالفة لمسار التاريخ الذي سجل أن كل عقائد العالم وأديانه وحضاراته موجودة جنبا إلى جنب.

وتصب في نفس التوجه للأسف تصريحات بايدن، وفق ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" بتقرير لكبير مراسليها في البيت الأبيض الشهر الماضي، تناول فيه علاقات الرئيس جو بايدن الراسخة بإسرائيل و"شغفه الواضح بالدولة اليهودية" على مدار مسيرته المهنية الطويلة.

وقال المراسل بيتر بيكر إن دعم بايدن القوي لإسرائيل وقت الأزمات ليس بالظاهرة الجديدة، فالتضامن الوثيق الذي أبداه الأسابيع الثلاثة الماضية، منذ هجوم (كتائب القسام) على إسرائيل، تعود جذوره إلى أكثر من نصف قرن من الانجذاب نحو "الدولة اليهودية" والذي اتسم بطابع شخصي للغاية .

وكان بايدن قد صرح خلال اجتماعه مع "لابيد" إبان توليه الحكم عام 2021 أنه يرى "سلاماً دائماً يتم التوصل إليه عبر المفاوضات بين دولة إسرائيل والشعب الفلسطيني". وأضاف: "يجب أن تظل إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية مستقلة".

وتابع في تناقض واضح "لا يزال حل دولتين لشعبين يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن هو أفضل السبل لتحقيق ذلك، فكلاهما لهما جذور عميقة وقديمة في هذه الأرض".

في نفس السياق، نستذكر تصريح نتنياهو عام 2019 والذي قال به بشكل وقح "إسرائيل دولة ليست لكل مواطنيها، هي دولة لليهود فقط".

لعل تلك التصريحات قد تطيح بحل الدولتين إلى غياهب التاريخ، فالخطير فيها أنها تعني عرب 48 في الضفة الغربية، وأن ما قامت به إسرائيل بمنحهم الجنسية وجوازات السفر قد أضحى خلفنا وإن يهودية الدولة تعني ترحيلهم عن أراضيهم في وقت ما، بما يتناقض بعنجهية ووقاحة مع حل الدولتين، ويشكل رافعة وركيزة أساسية لسياسة الفصل العنصري الذي تتباهى دول العالم بانتهائه في جنوب إفريقيا ويتمادى الغرب في دعمه بإسرائيل.

في المشهد الحالي والواقعي، ثلاثة قد يغادرون المسرح السياسي على عجل عندما يتوقف هدير الطيران والقصف الوحشي، وأيا كانت نتيجتها، نتنياهو وبايدن وعباس...الأول؛ في انقلاب داخلي، قد يحدث في أي وقت ليواجه المحاكم بتهمة التقصير إلى جانب تهم الفساد وسوء استخدام السلطة، والثاني خلال الانتخابات الأمريكية العام القادم حيث تشير استطلاعات الرأي بذلك، والثالث عبر صيغة قد تجعل رئاسته رمزية أو من خلال انتخابات تدفع بأحدهم بدعم من الداخل ، أو بآخر  بدعم من الخارج.

سيناريوهات عديدة تشهدها الساحة الفلسطينية فليس ما بعد "طوفان الأقصى "مثلما قبله، من تلك السيناريوهات الإسرائيلية تفريغ غزة بالكامل من سكانها وتحويلها الى منطقة حرة دولية، أو بشكل أكثر تفاؤلاً الإبقاء على الثلث الجنوبي منها (واضطرار السكان إلى الانتقال إلى العريش المصرية مع توفير إدارة مصرية لهم وهو ما ترفضه مصر حالياً) بعد احتلال الشمالي منها وتحميله بقوات فصل دولية، وبالتالي إمكانية تمرير قناة بن غوريون بسهولة والسيطرة على النفط والغاز من سواحل غزة الغنية به حسب الدراسات والأبحاث.

السيناريو الثاني احتلال غزة بالكامل وتفريغها من سكانها وبناء مستوطنات للإسرائيليين فيها.

السيناريو الثالث وهو الأقل احتمالاً، الابقاء على المدنيين فيها وترحيل المقاتلين وبناء جدار الفصل التام مع طوق غزة، وثمة سيناريوهات أخرى قد تتطلبها مخارج الحل حسب الواقع الميداني والتطورات الدولية، (مأ زق اليوم التالي حال انتهاء الحرب).

جميع هذه السيناريوهات يجري العمل عليها سياسياً في الغرف المغلقة وسط أجواء الحرب الوحشية المستمرة دون أي ردود أفعال إيجابية تشير إلى إمكانية وقف آلة الحرب الإسرائيلية (هدنة ووقف صوري في ظل الحصار الحديدي) وصمت دولي مخزٍ.

باستثناء الدعم الشعبي في دول عديدة من العالم والعواصم الغربية، تنبئ بتحول جاد في مواقف الشعوب مع فلسطين وشعبها وتنذر بتغيّيرات سياسية عميقة في الغرب لمساندة الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته على أرضه المحتلة عاصمتها القدس، مما قد يفتح الأبواب المغلقة باتجاه تسوية سياسية تفضي إلى حل الدولتين إذا تم فرضه دولياً (حملته سواعد المقاومين) وإعادة المنطقة إلى وضع الاستقرار للدفع باتجاه السلام العادل وتنفيذ القرارات الدولية ذات الشأن التي توافق عليها زعماء الدول الإسلامية والعربية في قمة الرياض هذا الشهر.

باعتقادي، ستشهد المنطقة والعالم، بعد انتهاء الحرب في غزة تبدلات جيوسياسية جوهرية، تبعاً للأحداث الكبرى التي من نتائجها الطبيعية تحولات وتغييّرات عميقة، قد تطيح بأحزاب سياسية ومنظمات أخرى في عالم النسيان، كما أن البوصلة السياسية ستتحرك نحو إيجاد مخارج للأزمات المتراكمة في المنطقة لتحقيق الاستقرار بعد الفوضى التي استثمرتها الإدارات الأمريكية لترسيخ سيطرتها عن بُعد الساعية لها، بدل تدخلاتها المباشرة عن قُرب، كل ذلك يحدث في ظل التقاعس الدولي والضغط على روسيا الاتحادية في الحرب الأوكرانية بغطاء أمريكي - غربي واضح المعالم، والعمل على تحييد الصين عبر مضيق تايوان والتلويح بالعقوبات الاقتصادية للمنافسة الاقتصادية بينها وبين الغرب، مع تحفيز الهند (المتعملق الجديد) للتشبيك مع المشاريع الغربية بالتضاد مع تاريخها الأقرب الى الشرق، ومع عودة تاريخية للقارة العجوز إلى الحضن الأمريكي بشكل أكثر حميمية انعكاساً للحرب الأوكرانية والخشية من عواقب أمنية وعسكرية واجتماعية واقتصادية قد تؤدي إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي وعودة العسكرة والتسليح لكل بلد منها وهو الظاهر حالياً في معظمها، حيث كشفت الحرب عن ثغرات في بنية الأمن الأوروبي كنتيجة للسياسات الدفاعية التي تم تصميمها خلال الأعوام الثلاثين الماضية على افتراض استدامة السلم الأوروبي، مما يدفع نحو إعادة تشكيل قاعدة التصنيع العسكري في أوروبا مع ما يرافق ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية  لتطوير منظومة الأمن الأوروبية.

لقد تغيرت الاستراتيجية الأمريكية في السيطرة من سياسة القطب الواحد المتحكم في جميع القضايا الدولية، (الانسحاب من أفغانستان، الانقلابات في دول إفريقية لإنهاء الاستحواذ الفرنسي فيها، وتقليص الامتدادات الروسية والصينية عليها).

في الوقت نفسه، تشكل تلك السياسات المتسارعة نقطة انعطاف بشكل هائل في عملية تغير ميزان القوى على المستوى الدولي، وعملية تفكك المنظومة الإقليمية التي «استقرت» على أساس التوازنات الدولية الهشة، الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتربع الولايات المتحدة الامريكية على عرش القطب الواحد.

وبالتالي، فإن المتغيرات والتحليل للسياسات الدولية والإقليمية والأمريكية قد ينحو باتجاه سياسات أمريكية بديلة تعتمد مشاركة الدول الكبرى في قيادة العالم، (بمثابة مجلس إدارة ترأسه أمريكا)، حيث شدد الرئيس بايدن خلال اجتماعه مع الرئيس الصيني الأسبوع الماضي على أن الولايات المتحدة والصين في منافسة، وأشار إلى أن بلاده ستواصل الاستثمار في مصادر القوة الأمريكية في الداخل والتوافق مع الحلفاء والشركاء حول العالم. وشدد على أن الولايات المتحدة ستدافع دائما عن مصالحها وقيمها وحلفائها وشركائها، وأعاد التأكيد على أن العالم يتوقع من الدولتين إدارة المنافسة بشكل مسؤول لمنعها من التحول إلى صراع أو مواجهة أو حرب باردة جديدة.

وقد تكون تلك السياسات تعويضاً وتجنيباً لهيئة الأمم المتحدة ( ورقية قراراتها وتقليص ميزانياتها ) التي تنادى العديد من دول العالم لتعديل ميثاقها ومنهم الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي .

إن قواعد الاشتباك التي تحددها خطوط التماس عبر فائض القوة لدى المتجاورين، قد ينقلب إلى اشتباك مباشر وحرب مفتوحة عند المساس بالأمن القومي لإحداها والتدخل في شؤونها الداخلية، والأمثلة عديدة عبر التاريخ القديم والمعاصر.. أما في حالة حرب غزة فإن الدعم الأمريكي والغربي للكيان الصهيوني، سياسياً وعسكرياً، سواء بالمشاركة في الأعمال الحربية أو بالتهديد عبر استقدام البوارج وحاملات الطائرات لحماية اسرائيل، فهو الدليل القاطع على انقلاب هذه المفاهيم في ظل انعدام للقيّم الإنسانية والأخلاقية التي حددتها منظومة حقوق الإنسان وحقه في العيش والحياة على أرضه بكرامة ودون تهجيره أو إجباره على مغادرتها، وهذا سيؤثر بالتأكيد على تأرجح السلام والأمن المستدام، الإقليمي والدولي، طالما استمرت السياسات الخشنة واللامتوازنة والبعيدة عن العدالة.

هل ثمة اعتدال ستشهده المنطقة بعيداً عن النزاع المستشري بين اليمين واليسار في منطقتنا والعالم؟

باعتقادي، إن مخارج الأزمات أضحت قاب قوسين وإن السبيل الوحيد للاستقرار والتنمية في منطقتنا والعديد من دول العالم، هو إعادة الحقوق كاملة والتحول نحو الديموقراطية التشاركية وقبول الاختلاف في الرأي كممارسة لمفهوم المواطنة واحترامها لأنها عصب الدولة المدنية.

ولكن رغم كل هذا القلق والإحباط، فإن الأمل مزروع في ضمائرنا ومتواجد في نفوسنا، حيث جسدت عملية "طوفان الأقصى" قوارب النجاة للطامحين في الخروج من الأزمات وتحريك الملفات الشائكة وتحرير الأرض، وتعزيز الاستقرار والسلام للعيش والحياة على هذه البقعة الأوسطية التي ارتوى ترابها بالدماء، وحان الوقت لتعيش برغد وأمان.

ننهض من جديد، هذه هي أبجدية الحياة وتراثها المتراكم عبر السنين، فكم من الشعوب والممالك والامارات والكانتونات قد تعرضت للاحتلال والغصب عبر التاريخ، بدواعي مختلفة ولأسباب جُلّها المطامع بالتوسع والسيطرة والنهب، ولكن مهما كانت نتائج الحرب فإننا انتصرنا بالارادة العظيمة لدحر الاحتلال وهزيمته نفسياً وأمنياً واجتماعياً، وإجباره على الهدنة وتبادل الأسرى.. والنصر قادم، وكطائر الفينيق.

فلسطين تستفيق…

ليفانت - باسل كويفي

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!