-
في جدلية وإشكالية الثقافة والتخصص
كثيرا ما تهاجم الأفكار بسبب عدم تخصص صاحبها الرسمي، دون النظر في محتواها!
هذا عموما أسلوب غوغائي وينم عن جهل صاحبه، الذي يقيّم الأفكار حسب عائديتها وليس حسب مضمونها!
وقبل النظر إلى أي تخصص، يجب النظر إلى العقل الذي يقوم عليه هذا التخصص، فحيث لا عقل لا يمكن لأي تخصص أن يقوم، فالعقل هو فعليا الذي يصنع التخصص، وهو الذي يجهز له الأرضية المناسبة ويبنيه عليها!
لكن العلاقة بين العقل والتخصص المعرفي ليست أحادية الاتجاه، فهي علاقة جدلية، أو علاقة تأثير متبادل!
فالعقل هو من يقيم التخصص، والتخصص يصقل العقل وينميه!
وهذا يعيدنا إلى جدلية العقل والعلم! حيث يصنع العقل العلم.. ويعود العلم فيطور العقل، وهكذا دواليك!
التخصص العلمي له قيمة كبيرة، ليس فقط من حيث الكم والكيف المعلوماتي الذي يحققه في ميدان محدد، فعلى نفس الدرجة من الأهمية ينعكس على العقل نفسه، ويزوده بـ "المنهجية العلمية".
هذه المنهجية العلمية هي ليست تخصصية حصريا!
بل هي من حيث المبدأ منهجية عامة تعطي صاحبها أهلية اتخاذ الموقف العلمي في كل ميادين المعرفة، ولكنها من حيث الواقع تختلف بين ميدان تخصصي وآخر، فهي تكون أقوى عادة في المجالات الأقرب إلى التخصص الأساسي لصاحبها وبالعكس!
لكن الضعف في المجالات البعيدة يمكن تعويضه في بعضها عبر توفير القدر المناسب من المعلومات عن موضوع ما، ثم معالجته معالجة علمية.
واقعيا ليس هناك تخصص منته، فلا أحد في تخصصه يعرف كل شيء فيه في لحظة ما! هذا ناهيك عن التجدد والتوسع الدائم في المعرفة العلمية في هذا المجال، ما يقتضي دوما مواصلة الاطلاع والحصول على معلومات جديدة ومواجهة وحل مسائل جديدة في ميدان هذا التخصص!
وهذا يعني أن التخصص العلمي يجعل صاحبه عالما بالمبادئ الأساسية قي تخصصه ويجهزه بقدر أولي كاف من المعارف يجعله قادرا على حل وفهم الكثير من المسائل الراهنة فيه، ومؤهلا ذاتيا لتنمية قدراته بأساليب مختلفة لمواجهة مسائل مستجدة أو لم يتم التعامل معها سابقا خلال الدراسة التخصصية.
هذا الموقف يمكن سحبه وتعميمه كمبدأ على كل مجالات العلم والواقع والحياة! فكلاهما عبارة عن واقع كلي موحد، وليس ميادين منفصلة تماما عن بعضها البعض.
ولو كان ثمة مثل هذا الانفصال لما كان ثمة عندها علم وواقع وحياة!
ما يعني أنه رغم استقلالية الميادين المختلفة لهذه القضايا، فهذه الميادين مرتبطة جوهريا في ما بينها في وحدة العلم ووحدة الواقع ووحدة الحياة.. ووحدة كل هذه الأمور مع بعضها البعض.
وهكذا فالتخصص العلمي يصنع الشخص العلمي أو الشخصية العلمية، وعندما يكون الشخص علميا فهذا يعني أنه أصبح ذا رؤية علمية للوجود ككل، وأنه يتعامل معه بعقل علمي وتفكير علمي يقومان على مبادئ ومعطيات ومناهج العلم.
وبهذا الشكل يصبح الطبيب المالك للعقل العلمي مؤهلا مبدئيا للتعامل بشكل علمي مع قضايا أخرى غير الطب، وقادرا من حيث المبدأ على التعامل معها كمسائل جديدة كما لو أنه يتعامل مع مسائل طبية جديدة.
لكن واقعيا حتى المسائل الطبية نفسها لا تتساوى في مستوى صعوبتها، وهي تصبح أصعب فأصعب كلما ابتعدت عن التخصص الرسمي لهذا الطبيب.. حتى أن التعامل معها عمليا يصبح متعذرا عمليا في الميادين البعيدة عن الاختصاص.
الأمر في جوانب الواقع الأخرى مشابه!
لكن استخلاص وتعميم خلاصة مفادها أنه إذا كان الطبيب المختص غير قادر على التعامل مع مسائل طبية تخصصية من غير اختصاصه، فهو سيكون أقل قدرة أيضا على التعامل مع قضايا غير طبية، هو مسلك جزافي والمضي فيه سيقودنا إلى "حالة الإنسان ذي البعد الواحد" العالم في ميدان معرفي ضيق والجاهل في بقية ميادين الحياة.
وبالطبع ظاهرة الإنسان ذي البعد الواحد هي ظاهرة ليست نادرة، وهي موجودة في كل من المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة، وإن اختلفت أسبابها وتجلياتها كثيرا، ففي المجتمعات التقليدية غالبا ما يكون صاحب العلم من نمط "العارف التراكمي"، الذي يمتلك المعلومات الجيدة في مجال معين، ولكنه لا يمتلك "العقل العلمي" أو "التفكير العلمي" العامين، وتبقى الذهنية التقليدية هي المهيمنة على تفكيره، فتجده مالكا للمعلومة الحديثة بل والأحدث في بعض الجوانب المعرفية، ومحافظا على أكثر أشكال الإيمان التقليدي بل والخرافي بدائية، ما يجعلك تشعر بحضوره أنك أمام شخصية فصامية تتعايش فيها الخرافة والعلم بشكل شديد الغرابة.
الحال في المجتمعات الحديثة مختلفة، فهناك تسود المنهجية العلمية، ولكن الإغراق قي دائرة الاهتمام المعرفي التخصصي الضيقة يؤدي إلى الفقر المعلوماتي في المجالات الأخرى، والمشكلة هنا عموما هي مشكلة معلومة، أما في المجتمعات التقليدية فالمشكلة هي من الأساس مشكلة فكرة.
لكن مع ذلك تبقى الإشكالية قائمة بين حدي المعرفة التخصصي والعمومي، وهنا يمكن طرح السؤال على الشكل التالي: هل يتساوى المتخصص والجاهل معرفيا في الموقف من قضية تخصصية أخرى مختلفة عن تخصص المتخصص؟! فعلى سيبل المثال هل يختلف موقف عالم حديث في الفيزياء النووية عن موقف عامل تنظيفات أمّي في مسألة ترتبط بجراحة القلب مثلا؟!
من الناحية العلمية الصارمة، أو الأكاديمية، ليس هناك فرق يذكر، وكلاهما يقع خارج المستوى الأكاديمي التخصصي، وهذا ما يجب أن نعترف به بصراحة!
لكن هل يمكن تعميم هذا الموقف على جوانب الحياة الأخرى؟!
ماذا عن السياسة مثلا؟ أفلا يفترض بنا القول أن السياسة هي الأخرى ميدان تخصصي، ولديها علماؤها الخاصين، وأمام هذا التخصص لا يعود ثمة فرق جوهري بين عالم فيزياء وراقصة باليه وشيف مطعم، فجميع هؤلاء هم خارجه، وهذا الكلام ينطبق على الاقتصاد والاجتماع والدين وغيرها من ميادين المعرفة؟!
الجواب هو لا! ولأسباب متعددة!
فأولا ليس كل ما في المعرفة تخصصا، ومستويات المعرفة تتدرج من المعرفة العامة البسيطة حتى أقصى درجات التخصص العلمي الدقيقة.
ثانيا ليس كل ما في الحياة تخصصا، والمعارف تنقسم إلى مجالات تخصصية ومجال معرفي عام تلتقي فيه كل فروع المعرفة، وهذا المجال المعرفي العام هو ما نسميه "الثقافة".
ثالثا ليس كل ما في الحياة معرفة، والحياة فيها ميادين متعددة ومتنوعة ويلتقي فيها المعرفي وغير المعرفي.
وبناء على ما تقدم يمكن القول أن كل ما ينتمي إلى مجال الشأن العام والحياة العامة هو قطعا ليس بمجال تخصصي، وإذا ما أردنا اعتباره كذلك فهنا يصبح الجميع متخصصين فيه.
وهكذا تصبح مثلا مسألة اختيار النظام الاقتصادي في دولة ما ليست شأنا اقتصاديا علميا محضا لا يحق لغير الاقتصاديين التدخل أو المشاركة فيه، فهذه القضية تنتمي معا إلى الشأنين الخاص والعام، وهي تمس جميع الناس فيه من أكثرهم عامية إلى أكثرهم نخبوية، ومن حق وواجب الجميع المشاركة فيه والاهتمام به بشكل فاعل، وهذا الكلام ينطبق على مسائل البيئة والصحة والتعليم والأمن، وفعليا على جميع مجالات الحياة.
فهل يمتلك الشخص غير المتخصص الأهلية لذلك؟!
هذا ما تجيب عليه الديمقراطية بثقة وتركيز بـ "نعم"، والديمقراطية تقوم جوهريا على قدرة جميع الناس على المشاركة في صنع القرار في المجتمع، ولذلك فهي تسعى لرفع كفاءة الناس عامة في هذا الميدان عبر رفع مستوى ثقافتهم أو مستوى معارفهم العامة.
أما قدرة الشخص غير المتخصص على التعامل مع الأمر التخصصي، فهي أمر واقعي، فرغم أنه ليس مطلوبا -مثلا- من الطبيب أو الشخص العادي أن يعرف هندسة تصميم السيارات، ولا يحق لهما مجادلة المهندس الميكانيكي في هذه القضية تخصصيا، إلا أنهما يصلحان هما وغيرهما من غير المختصين الميكانيكيين للحكم على جودة عمل المختص الميكانيكي بصفتهما مستخدمين مباشرين للسيارة التي ينتجها هذا المختص، وهذا الكلام ينطبق على موقف المختص الميكانيكي والشخص العامي من أداء الطبيب بصفتهما متعالجين، وهلم جرى..
هنا نرى أن غير المختصين من أشخاص عاديين أو ذوي اختصاصات مختلفة يحكمون في مسائل تخصصية محددة حكما عمليا من خلال تعاملهم معها في الحياة العامة، فقيادة السيارة الخاصة هي هنا مسألة يلتقي فيها بحد ذاتها جميع الناس عموما بعزل عن تخصصاتهم.
هذه حالة يحكم فيها غير المتخصص في ما هو تخصصي، ومثل هذا الوضع نجده في حال تعدد الخيارات التخصصية وقيام غير المختصين بالاختيار والمفاضلة بينها كما يحدث في الانتخابات عادة أو عمليات الشراء العادية.
من ناحية ثانية، ميادين المعرفة نفسها تتخلف في درجات تخصصها، والتخصصات نفسها تختلف في درجات التعامل معها من قبل غير المختصين فيها.
لكن الحصول على المعرفة يبقى أمرا ممكنا دوما، وهذه المعرفة تسمى هنا ثقافة، وهي نفسها تتدرج في مستوياتها كما وكيفا، إذا يمكن أحيانا لغير المختصين أن يبلغوا درجات من التحصيل الثقافي في ميدان ما تجعلهم جد قريبين فيه من المستوى التخصصي.
وفي أحيان أخرى يمكن لغير المختصين أن يبلغوا من المعرفة في مجال ما مستوى يعادل مستوى المتخصصين الرسميين فيها، وليس بالضرورة أن تكون هذه المجالات قريبة من تخصصهم الرسمي.
وفي مجمل الأحوال المسألة مناطة بطبيعة المجال المعرفي نفسه، وبأهلية غير المتخصص المهتم به، وبشكل عام التخصص هو عبارة عن عملية حصول على قدر منظم ومحدد من المعلومات في مجال ما، وهي عملية تتم حديثا في مؤسسات تعليمية رسمية مخصصة لهذا الغرض، لكن هذا لا يعني أن هذا هو السبيل الوحيد للحصول على المعرفة المحددة ذات السوية العالية، وحالات النجاح البارز لغير المختصين في غير اختصاصاتهم الرسمية القريبة أو البعيدة جد كثيرة.
وخلاصة الكلام هي أن الإنسان كائن عاقل يتعامل مع كل ميادين الحياة بعقله ومعرفته، وعندما يكون الشخص على درجة من العلم في ميدان، فهذا العلم التخصصي لا يكون مجالا مغلقا ومنفصلا عن سواه من مجالات المعرفة نفسها ومجالات الحياة عموما، وهو بشكل عام يعطي من حيث المبدأ الأهلية العلمية العامة، التي تجعل هذا الشخص أقدر على التعاطي مع المسائل التخصصية الأخرى، أو المسائل العامة غير التخصصية.
طبعا ما تقدم يقتضي أن يكون هذا المتخصص ذا عقلية علمية شاملة تتعامل على أسس علمية مع كل مسائل المعرفة والوجود والحياة، وأن يكون لدى هذا الشخص القدر الكافي من المعلومات الموضوعية في المسألة المطروحة، وعملية الحصول على القدر الكافي من المعلومات هذه تختلف في ممكنيتها وصعوبتها بين ميدان وميدان، وتتأثر بمدى قرب أو بعد اختصاص الباحث المختلف منها.
أما التركيز على التخصص العلمي والتمركز فيه، فهو يمزق المعرفة ويبعثرها ويحشرها في الأطر الضيقة المنفصلة المنعزلة، ولا ينتج في المحصلة معرفة وكفاءة اجتماعية بقدر ما ينتج جهلا وعقما اجتماعيا.
إن المعرفة ببعدها التخصصي تنتج علما، أما ببعدها العمومي فهي تنتج ثقافة، ومستوى تحضر الشعوب يقاس بالدرجة الأولى بمستوى ثقافتها وثانيا بمستوى علومها، لكن العلاقة بين العلم والثقافة هي علاقة تكاملية، والتخصص العلمي رغم أنه بحد ذاته ليس ثقافة إلا أنه من حيث المبدأ برفع من إمكانية أن يصبح صاحبه مثقفا، وبدرجة أو بأخرى يترك غالبا أثرا إيجابيا على المستوى المعرفي العام لصاحبه
هذه القضية لا يفهمها بالطبع ذوي العقل غير العلمي الذي تحكمه الخرافة والغيبية أو تختلطان فيه مع العلم.
كما لا يفهمه أيضا ذوي التخصص الأحادي البعد الفاقدي المنهجية العلمية، الذين لا يختلفون عن الشريحة السابقة إلا بوجودهم في بيئات علمية بعيدة عن الغيب والخرافة.
ولا يفهمه أيضا ذوي التخصص الأحادي البعد وذوي المنهجية العلمية، ولكن المغرقون في دوائر تخصصهم الضيقة، التي تجعل نطاق ومستوى معرفتهم العامة ضيقا أو سطحيا.
لكن أسوأ الجميع هم أولئك الذين يتوهمون أن خراقاتهم وغيبياتهم هي علم، ويعمدون بوهمهم هذا إلى إقصاء أو تسفيه المفكرين المثقفين، الذين يعتبرونهم برأيهم الواهم هذا غير علميين ويحطون من قدر أطروحاتهم بذريعة عدم التخصص أو غيرها من الذرائع.
رسلان عامر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!