-
فرنسا والتشنج الجزائري.. عندما يتغلب المستقبل على التاريخ
شهدت العلاقة الفرنسية الجزائري، توتراً كبيراً في بداية أكتوبر الماضي، عندما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مجموعة من الفرنسيين ذوي الأصل الجزائري ومزدوجي الجنسية لبحث قضية "مصالحة الشعوب"، فخاطب هؤلاء الشباب بالذات، لأنهم أحفاد مقاتلين في "جبهة التحرير الوطني" أو "حركيين" تعاونوا مع الجيش الفرنسي إبان فترة الاستعمار، أو أنهم أحفاد معمرين أوروبيين عادوا إلى فرنسا عقب استقلال الجزائر.
إلا أن اللقاء، حمل تصريحات مستفزة للجزائريين، عندما قال ماكرون: "أنا لا أتحدث عن المجتمع الجزائري في أعماقه ولكن عن النظام السياسي العسكري الذي تم بناؤه على هذا الريع المرتبط بالذاكرة، أرى أن النظام الجزائري متعب وقد أضعفه الحراك"، وأردف: "أنا شخصياً كان لي حوار جيد مع الرئيس تبون، لكنني أرى أنه عالق داخل نظام صعب للغاية".
استدعاء سفير وإغلاق مجال جوي
وحول الماضي التاريخي لفرنسا في الجزائر، نوه ماكرون إلى أنه يسعى إلى إعادة كتابة التاريخ الجزائري باللغتين العربية والأمازيغية: "لكشف تزييف الحقائق الذي قام به الأتراك الذين يعيدون كتابة التاريخ"، مردفاً: "أنا مندهش لقدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها، وترويجها لفكرة أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون"، مستفسراً: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا هو السؤال"، وهو ما أشعل لهيب الجزائريين، مسبباً تشجناً كبيراً لهم.
لتستدعي معه السلطات الجزائرية سفيرها لدى فرنسا للتشاور، ويتلوها قرار بإغلاق المجال الجوي الجزائري أمام جميع الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية "برخان"، فيما أصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً، في الثالث من أكتوبر، ردت فيه على تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مؤكدةً رفضها لها، واصفةً إياها بالاعتداء غير المقبول على ملايين الشهداء الذين قتلتهم فرنسا.
وبالمقابل، اختارت فرنسا انتهاج لغة الدبلوماسية، وعدم زيادة التوتر، خاصة أن الرئيس الفرنسي من بدأ المواجهة، فقال إيمانويل ماكرون في الخامس من أكتوبر، إن العمل يجب أن يستمر مع الجزائر، معرباً عن أمله بأن تهدأ التوترات الدبلوماسية قريباً، مضيفاً: "يجب أن نواصل فحص تاريخنا مع الجزائر بتواضع واحترام".
تركيا تدخل على خط المواجهة
فيما وجد المتحدث باسم "حزب العدالة والتنمية" التركي عمر جليك، الفرصة سانحة للمهاجمة فرنسا، خاصة أن البلدين متعارضان في ملفات كثيرة، فاعتبر أن ماكرون "يهاجم تركيا للتهرب من مواجهة إرث بلاده الاستعماري"، قائلاً إن "الجزائر تطالب فرنسا بمواجهة ماضيها الاستعماري، إلا أن ماكرون عوضاً عن ذلك يوجه الاتهامات لتركيا من خلال الإشارة للإمبراطورية العثمانية".
واعتبر أن تصريح ماكرون بأن "الشعب الجزائري والدولة الجزائرية يستخدمان ذاكرة مستأجرة، ينم عن قلة احترام"، محاولاً صب الزيت على النيران الملتهبة بين فرنسا والجزائر، عبر تحريض الجزائر بالمزيد من التصريحات النارية، التي عادة ما يتراجع عنها الجانب التركي عندما يرتبط الأمر بمصالحه، وهو ما فعله مع فرنسا نفسها سابقاً، فقال: "الشعب الجزائري ذو كرامة ودولته كذلك، وربط ماكرون مسيرة تحول الجزائر إلى دولة وأمة بالاستعمار الفرنسي تصريح خاطئ ومسيء للغاية".
الشروط الجزائرية للتهدئة
وعقب الأخذ والجذب، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في العاشر من أكتوبر، أن عودة سفير بلاده إلى فرنسا مشروطة باحترام باريس الكامل والتام للجزائر، وأنه "على فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت مستعمرة"، فيما كرر جان إيف لودريان وزير الخارجية الفرنسي في الثاني عشر من أكتوبر، التشديد على الاحترام الراسخ للسيادة الجزائرية، ذكراً أمام الجمعية الوطنية الفرنسية: "مؤخراً جدد رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون التأكيد على احترامه الكبير للشعب الجزائري"، وأردف: "هذا الأمر يعني بالتأكيد الاحترام الراسخ للسيادة الجزائرية"، فـ"يعود للجزائريين ولهم وحدهم أن يقرروا مصيرهم وتحديد أطر خياراتهم ونقاشاتهم السياسية".
تصريحات لم تقنع الرئيس الجزائري، الذي عاد في السادس من نوفمبر الجاري، للتأكيد على أنه لا يوجد أي جزائري سيقبل بتطبيع العلاقات مع فرنسا بعد التصريحات الخطيرة لرئيسها إيمانويل ماكرون، قائلاً في حوار مع أسبوعية "دير شبيغل" الألمانية، إن الرئيس الفرنسي أهان كرامة الجزائريين وإنه لا يجب المساس بتاريخ الشعب وكرامة الجزائريين، مشدداً على أن تصريحات نظيره الفرنسي هي إحياء للنزعة الاستعمارية وأنه اصطف بجانب من يبررون الاستعمار الفرنسي، وأنه على فرنسا الاعتراف بكافة جرائمها الاستعمارية وليس ما حدث في فترة قصيرة كما جاء في تقرير بنيامين ستورا.
سوء تفاهم
لكن فرنسا واصلت محاولاتها لإصلاح العلاقة، فقال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في الثامن عشر من نوفمبر، إن "الجزائر وفرنسا توحدهما علاقات متجذرة في التاريخ"، وشدد لودريان على أن "فرنسا تكن احتراماً عميقاً للأمة الجزائرية وسيادة الجزائر"، معرباً عن أسفه إزاء "سوء التفاهم" الذي حصل بين البلدين، قائلاً إن "هذا الوضع لا يتوافق مع الأهمية التي نوليها للعلاقات بين بلدينا".
محاولاتها أتت أكلها في السابع والعشرين من نوفمبر، عندما قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن العلاقات الجزائرية الفرنسية المتوترة "يجب أن تعود إلى طبيعتها"، لكن شرط التعامل على أساس "الند للند" بين البلدين، مضيفاً أن الجزائر "أكبر من أن تكون تحت حماية أو جناح" فرنسا، مبدياً في الوقت نفسه استعداده للتعامل التجاري والحفاظ على مصالح الطرفين، وقال: "نحن متفقون أن نتعامل معاً من أجل عدم عرقلة مصالح كل طرف، ولكن لن نقبل أن يُفرض علينا أي شيء".
ليحط وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في الثامن من ديسمبر الجاري، بالعاصمة الجزائر، في زيارة عمل بهدف إحياء العلاقة، حيث أكد لودريان أن زيارته للجزائر تهدف لتعزيز الثقة بين البلدين في ظل السيادة الكاملة لكل بلد، وأن الجزائر وفرنسا لديهما روابط عميقة تنشطها العلاقات الإنسانية بين البلدين، وأن باريس ترغب في العمل من أجل إذابة الجليد وسوء التفاهم، كما ذكر الوزير الفرنسي أنه يأمل أن يسهم الحوار الذي باشروه في عودة العلاقات السياسية بين حكومتي البلدين مطلع السنة الجديدة بعيداً عن خلافات الماضي، ليكون معها التفاهم على المصالح، عاملاً أساسياً في حلحلة العقد بين الجانبين، وتغليب المستقبل على الماضي.
ليفانت-خاص
إعداد وتحرير: أحمد قطمة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!