الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
فحيح القبور
رسلان عامر

ذات يوم قال مظفر النواب لمن كانوا يلومونه على استخدام ألفاظ بذيئة في قصائده: “دلوني على وضع أكثر بذاءة مما نحن فيه”. 


وقد صرنا اليوم أبذأ بكثير مما كنا يومها فيه، وما زال حبل بذاءة حالنا على الجرار، وهذا ما أقوله لمن سيجد عنوان هذه المقالة منفراً أو قاسياً، فالقساوة أصبحت كلمة ناعمة بالنسبة لما سقطنا فيه وبتنا نغرق فيه سوريّاً وعربياً.


هذه المقالة تتناول عدّة نماذج من الخطاب المتفسّخ، الذي ما يزال منتشراً على الساحة الرسمية وغير الرسمية، في سوريا وفي غيرها من البلدان (الشقيقية)، وهو خطاب لا يمكن وصف أصحابه إلا أنّهم يقعون خارج الحياة، فهم منفصمون كليّاً عن الواقع والحاضر والمنطق والضمير، وما زالوا يتشدّقون بكلام، أقلّ ما يقال عنه أنّه يشبه فحيح الأفاعي، ولا يستحقّ إلا أن يدفن في أعماق القبور.


أول عيّنة سيتم تناولها من هذا النوع من الخطابات، هو الخطاب الذي مايزال يستخدمه أتباع وأنصار الديكتاتوريات والمدافعون عنها، سواء الذين يتعمدون ذلك بسبب ارتباط مصالحهم الخبيثة بها، أو بسبب عماء البصيرة الذي أسقطتهم هذه الديكتاتوريات فيه خلال عقود من الظلاميّة والقمع والتجهيل والتضليل. 


في خطاب هذه العينة، التي تتبجّح دائماً بوطنيتها المزعومة، والتي دوماً ينقصها “جيم” بين النون والياء، يمكن اختصار تعريف هذه “الوطنية” بأنها ليست أكثر من “الخضوع للسلطان”، فالوطن يُختزل عادة في نظام السلطة المتسلطة الحاكمة، التي تختزل بدورها في شخصية زعيمها، وهكذا يصبح كل ما يصدر من طغيان وفساد عن هذه السلطة هو ضريبة مستحقّة على وطنيتها المزعومة، وعلى “الرعايا”، دفعها بمنتهى الطاعة والرضوان ليؤكدوا بذلك سلامة موقفهم الوطني، إما إن تذمروا أو اعترضوا أو عارضوا، فهم عندها يشقّون عصا الطاعة الوطنية، ويتمردون على الوطن، ويسقطون في مهاوي الخيانة، ولأنّهم مجرد “رعايا” بنظر هذه السلطة، والرعايا هم دوما كالشاة في القطيع، بحاجة إلى راعٍ يسوسهم ويسوقهم، فهم إما رعايا طائعين، أو خاضعين صاغرين لسلطان سلطتهم المتسلطة، أو هم متمردون، ولكن تمردهم هذا في حال حدوثه لا يمكن _بنظر هذه السلطة_ أن يصدر عن إرادة وقرار، بل بفعل متآمر خبيث يتلاعب بهم، فهم دوماً مستلوبو الإرادة ومصادرو القرار بالنسبة لهذه السلطة، التي ستعتبرهم إن هم انتفضوا أو ثاروا ضد استبدادها وفسادها محرَّكين من قبل “راعٍ” خارجي، وسيصبحون عندها ليسوا متمردين وحسب، بل عملاء وأدوات لعدو أجنبي، أما الاستبداد والفساد والإفقار والتجهيل ومختلف أنواع الرذائل التي تقوم بها مثل هذه السلطة، فلا علاقة لها بتاتا بالموضوع، ويتم التعامل معها كأمر طبيعي تماماً، وفي أحسن الأحوال قد يعترف بها كمشاكل هامشيّة. 


وهكذا فبنظر أتباع وأنصار الديكتاتوريات، تعتبر كل ثورات وانتفاضات الربيع العربي مؤامرات خارجية مغرضة، فبرأي العديد من هؤلاء على الساحة السورية مثلاً، كل ما يسمى بالربيع العربي، هو عبارة عن مؤامرة محكمة، غايتها الأساسية هي الوصول إلى سورية، وضربها لأنّها محور الممانعة والمقاومة، وكل من شارك في حركات هذا الربيع، هو متآمر، وهو إما طابور خامس، أو إمعة تحرّكه الصهيونية والإمبريالية العالميتين.


وإن حدّثت هؤلاء عن عقود الاستبداد والفساد، سفّهوا حديثك، واعتبروا الفساد مكوناً عادياً من مكونات الطبيعة البشرية، أو نسبوه إلى فساد أخلاق الشعب وسوء تربيته وبرؤوا سلطتهمم، أما موقفهم من الاستبداد فهو أنكى من ذلك، فبالنسبة لهم الاستبداد حسنة، وليس سيئة، فـ “شعوب غبية وقليلة الأدب وسيئة التربية كشعوبنا” _برأيهم_ لا يمكن أن تحكم بغير العصا، بل والبوط العسكري، بل حتّى إنّ الديمقراطية كلها كذبة أينما كانت، وبرأيهم أيضاً، الحال الكارثي الذي وصلنا إليه، ليس سببه القمع والفساد المرتبط به، وبنظرهم القمع دواء لفساد الشعب، والنظام الحاكم بريء منه، بل حتّى إنه ضحية من ضحاياه، ففساد الشعب هو الذي ينقل عدواه إلى مؤسسات السلطة ويفسدها، وعلاج هذا الفساد، وأيضا علاج تمرد “الشعب الغبي الذي امتطه الإمبريالية والصهيونية” هو زيادة القمع، فالقمع فشل في حماية البلاد من المؤامرة لأنّه كان غير كاف أو “رحيماً”، وعليه بعد أن انتصر على المؤامرة العالمية أن يتعلّم من أخطائه، وأن يضاعف جهوده وألا يترك للرحمة موضعاً، فـ “شعب أحمق لئيم كشعبنا” لا يستحقّ أي شكل أو قدر من الرحمة.  


وهذه العينة اليوم تتباهى بانتصارها رغم كل الدمار الكارثي الذي أصاب البلاد، وكأنه ليس لدينا مئات الألوف من القتلى وأضعافهم من معوقي الحرب والمشردين والنازحين، إضافة إلى الشروخات والانقسامات التي لحقت بالمجتمع السوري، هذا عدا تدهور الاقتصاد بنسبة زادت عن العشرين مرة، وعدا الدمار الذي طال أكثر من نصف البنى التحيّة، والتي تبلغ قيمته مئات مليارات الدولارات، والتي تحتاج إعادة بنائها إلى عقود، هذا بالطبع بعد أن يتوقّف مسلسل الانهيار الذي ما يزال مستمراً، وبوتيرة عالية حتى اليوم، ولا تبدو له نهاية قريبة.


ومع ذلك، فهذا ليس غريباً على “ذهان” مثل هذه العينة من وطنجيي السلطة، فهم سيعتبرون أنفسهم منتصرين، حتى لو بقي واحد بالمئة من البلاد، إن كنت سلطتهم باقية، ففي هزيمة 1967 النكرة، اعتبر أمثال هؤلاء أنفسهم فائزين فيها، لأن إسرائيل فشلت _بزعمهم_ في تحقيق أهدافها العدوانية المتمثلة بإسقاط الأنظمة التقدمية في سوريا ومصر، رغم أنّ إسرائيل احتلّت من الأرض العربية في هذه الحرب أربعة أضعاف ما احتلّته في حرب الـ 48، وحطّمت عدّة جيوش عربيّة. 


لكن هذه الأثمان والخسائر بالنسبة لهذا العينة ليس لها قيمة، فلا قيمة للإنسان ولا للأرض أو الاقتصاد أو سواها، فالقيّم الوحيد هو السلطة الحاكمة، وإن حافظت على حكمها فهذا نصر مبين، وكل الخسائر في الميادين الأخرى مهما كانت باهظة، هي خسائر هامشية، فالنسبة لهؤلاء كل القيمة والأهمية، تُختزل في النظام الحاكم، وكل ما يتبقى هو هامشي بما ذلك الشعب كله والوطن نفسه.


وكما سلف القول، فهذه العينة ليست موجودة في سوريا وحدها، فأنصار الديكتاتوريات استخدموا كل خرافات المؤامرات الخارجية والعمالة والتكفير وما شابه، في كل بلد عربي تعرّض لانتفاضة أو ثورة، حتى في لبنان.


ومن أسخف ما صادفته في السياق كان وصف لأحد بلطجية نظام مبارك في مصر، الذي أعيد إنتاجه بعد ثورة 30 يونيو (المضادة)، وقام فيه لوصف ثورة ثورة 25 يناير بأنّها “ثورة أمريكية”، وكأن “مبارك” كان مناضلاً كبيراً ضد أمريكا وإسرائيل لتتآمرا عليه بثورة، ولم يكن أحد أكثر الأتباع انبطاحاً أمام أمريكا وإسرائيل، هذا عدا عن الفساد والتردّي الهائلين اللذين وصلت إليهما مصر بسببه على كافة الصعد، وبالطبع فهذا “البلطجي” وأمثاله لا يبصرون الملايين التي نزلت إلى الميادين في مصر ضد نظام مبارك، لأنها لم تعد تحتمل الحال المتدهور الذي أنتجه حكمه، فالنسبة له هؤلاء ليسوا أكثر من “إمعات وبيادق” تحركها أمريكا وقت الحاجة كما تشاء، في الوقت الذي كان فيه مبارك وبقية أزلام نظامه هم البيادق الحقيقيون بيد أمريكا وإسرائيل. 


بعد حديثنا عن تلك العينة التي نسميها في سورية “شبيحة” ويسميها إخواننا في مصر “بلطجية” وفي اليمن “بلاطجة”، وهكذا دواليك، ننتقل إلى عينة أخرى لا تقلّ عنها سوءاً، إن لم تزد، وهي عينة “المتأسلمين”، وهي عينة متكاملة مع سابقتها، سواء وقفت منها موقف الحليف أو العدو.


فهذه العينة، بالنسبة لها توقّف التاريخ في القرن السابع الميلادي، وهي لا يمكنها أن تفهم الإسلام إلا فهماً وفق مقاييس ذلك العصر، ولكن ليس هذا فحسب، فمسلمو ذلك العصر كانوا أبناء عصرهم، ويحملون كبشر ما في عصرهم من حسنات وسيئات، كأيّ بشر غيرهم في أي عصر، ولذا فهم قدموا إسلاماً يناسب مستويات عصره في المعرفة والفكر والأخلاق، وبشكل إيجابي اعتمدوا على إسلام زمانهم لتجاوز كل تلك المستويات، وصنعوا حضارة عالمية خلال وقت قياسي.


أما متأسلمي الحاضر، فهم على العكس من ذلك، هم عاجزون كلياً عن تقديم إسلام عصري يحاكي أخلاق ومعارف هذا العصر، وما وصل إليه العقل الحديث من إنجازات كبرى في ميادين العلم والفكر. 


إنهم يتواجدون خارج التاريخ والحاضر، وبذلك ينفون أنفسهم إلى خارج الحياة، التي يحاولون حشرها قسرياً في قوالب سالفة من خارج الحياة، وبالنسبة لهم، ما يزال الآخر والمختلف كافرين، وما تزال المرأة عورة ناقصة عقل ودين، وما يزال العنف هو السبيل لحماية وتمكين الدين، وهم دوماً يصرّون على “حلّهم الإسلامي” المزعوم، الذين لا يرونه إلا أكثر من عودة إلى “الإسلام الحقيقي”، وفق فهمهم لهذا الإسلام طبعاً، فبالنسبة لهم، سبب كل مشاكل واقعنا هو الابتعاد عن الإسلام وعدم تطبيقه بالشكل الصحيح، وحلّها البسيط هو في العودة إلى تطبيق الإسلام، وتطبيق الإسلام بالشكل الصحيح لا يعني قطعا بالنسبة لهم عصرنة الإسلام وتحديثه بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث، فكل هذه العصرية والحداثة بالنسبة لهم ليست إلا كفراً أنتجه الكافرون، ومحاولة تطبيقها في ديار الإسلام هي مجرد عدوان سافر مغرض من قبل أولئك الكفرة الذين يتربصون بالإسلام، ويسعون للقضاء عليه، ولذلك فالحلّ الوحيد هو في العودة إلى الأصول السالفة، والتشدد في تطبيقها وفرضها على الحاضر، ما يعني أنّ الحل لديهم يقترن بمزيد من التشدد، الذي لا يقود بدوره إلا لمزيد من التطرّف والتعصب والتكفير والإرهاب.


هذه العينة لا تبصر الكم المفرط من التشدّد والتعصب المرتبط به على أرض الواقع في واقعنا، ولا تبصر النتائج الوخيمة لهما، وما تؤدي من نشر وترسيخ للبيئة الخصيبة المنتجة للطغيان والإرهاب، وكما لا يبصر الشبيحة وبلاطجة الديكتاتوريات الدور الكارثي للقمع، فيطلبون منه المزيد، وبذلك يتصورون ويصورون الداء دواء والسم ترياقاً، فهؤلاء المتأسلمون يفعلون المثل عندما يتصورون التشدّد والتسلّف حلاً.


هؤلاء المتأسلمون، المتخارجون مع العصر، وحياة العصر، لا يفكرون كيف سيقابلون حوالي سبعة مليار غير مسلم في عالمنا الراهن عندما يصمونهم بالكفر، ولا كيف سيواجهون أكثر من ثلاثة مليارات امرأة عندما يصورهنَّ كعورات ناقصات عقل ودين، وهم أيضا لا يبالون حتى بمواقف العلماء عندما يدوسون على نظريات علمية لها مكانتها الكبيرة في العلم، ويتشبثون بأوهامهم العتيقة بدلا من تطوير فهم عصريّ للقرآن والحديث، يتوافق مع العقل العلمي الحديث.


العينة الثالثة من أصحاب الفكر الميت التي سنتحدث عنها، هي عينة أصحاب “ذهنية المؤامرة”، فهؤلاء لا يختلفون كثيراً عن المتأسلمين، الذين يرون كل ما يختلف عن إسلامهم الخاص، بدعاً وضلالات وشراكاً من صنع الشيطان، الذي يتآمر على الناس جميعاً ولاسيما على المسلمين منهم. فحيح القبور


وهؤلاء المؤامراتيون صنعوا بدورهم شياطينهم، وأكبرها بالطبع الماسونية والإمبريالية والصهيونية، والغرب الاستعماري برمّته.


بالنسبة لهذه العينة، التي يمكنها أن تضم متدينين وغير متدينين، التاريخ لا يُفهم قطعا فهماً علمياً، ولا ينظر إليه كصيرورة تطوريّة تحكمها قوانين واقعية وتحركها عوامل وفواعل اجتماعية، فالتاريخ بالنسبة لهم هو لعبة تحركها بشكل أساسي المؤامرات، ولكن كلاً منهم يفصل هذه المؤامرة حسبما يوافق ذهنيته أو عقيدته أو مصلحته، ولذا فكثيراً ما تتضارب آراء هؤلاء التآمريون وتتناقض.


فبالنسبة للبعض منهم الفتوحات والثورات الكبرى في التاريخ الحديث كلها من نتاج المؤامرة الماسونية وحلفائها، وكأنها أخطبوط يتحكم بالعالم والتاريخ، وهكذا تصبح _مثلاً_ الثورة الفرنسية والثورة الروسية وما ماثلهما من الثورات مكائد ماسونية، ويضاف إلى هذه المكائد بالطبع العلمانية والديمقراطية والحركة النسائية والحرية الجنسية، والإلحاد، وهلم جرى، وحتى نظريات مثل نظرية التطور في البيولوجيا الحديثة ونظريات نشأة الكون في الفيزياء والكوزمولوجيا الحديثتين، وبشكل عام تصبح كل مسيرة التطور الحديثة وكل ما فيها من ثورات علمية وفكرية واجتماعية أجزاء من المؤامرة الماسونيّة، وكل من أو ما ينتمي أو يرتبط بهذه الثورات عنصر من عناصر هذه المؤامرة أو أداة من أدواتها، وهكذا تصبح كل هذه الثورات جنايات، وكل من أو ما يقع في الخنادق المضادة لها ضحايا، بما في ذلك أنظمة الحكم الملكي المطلق وكل ما فيها من اضطهاد وفساد، والإقطاع المتحالف معها، وكنيسة القرون الوسطى، وكل ما ينتمي إلى هذه القرون الوسطى من ظلاميّة الفكر وتدني الأخلاق وهمجية التقاليد، وكل ما فيها من فقر وبؤس وحرمان وعسف بحقّ الطبقات الدنيا وظلم للمرأة، وتنكيل بالعلماء والفلاسفة، ما يعني أنه كان من الواجب على الناس أن يقبلوا كل ذلك ويسلموا به ويسكتوا عنه، كيلا يكونوا شركاء أو عملاء أو مستخدمين في المؤامرة الماسونيّة الملعونة، التي تسعى للسيطرة على العالم. 


وبالنسبة للآخرين، قد تختلف بدرجة أو بأخرى قوائم ما تضمه هذه المؤامرات، وقد تختلف إلى حدّ ما الجهات التي تقف وراءها، فبعض اليساريين مثلاً لا يقبلون تضمين الثورات الكبرى في عداد هذه المؤامرة، ولكن يقبلون _مثلاً_ بأن يكون الاتّحاد السوفييتي قد سقط بمؤامرة صهيوإمبريالية، فيما يذهب آخرون من ذوي التوجّه الديني إلى حدّ اعتبار كل الصراعات السياسية والطائفية والفتن التي حدثت في التاريخ الإسلامي مدبرة من قبل متآمرين يرتبطون أيضا بالقوة الأم التي تحدرت منها الماسونية، وهكذا دواليك.  


واليوم سواء على الساحة السورية أو الساحة العربية، هناك فيض من الكلام عن المؤامرات، ويسهل فيه تشخيص المتآمرين، فالصهيونية والإمبريالية والغرب الاستعماري وأعوانهم المفترضين دوماً صالحين لهذه الوظيفة، وبالنسبة لأصحاب هذه الذهنية المعتادة على ردّ كل مساوئ وطوارئ الواقع إلى متآمر خارجي، يصبح من السهل اعتبار كل حركات الربيع العربي حلقات متجددة في مسلسل التآمر الخارجي المستمرّ، أما الواقع بكل ما فيه من رزايا محلية الأسباب، فلا تبصره هذه العينة الفاقدة الواقعية، التي ترتبط بدورها بالعقلانية، فالعقلانية هي عملة غير مستخدمة ولا رصيد لها في بازار ذهنية المؤامرة.


العينة الرابعة التي سنتكلم عنها من بين هذه المستحاثات هي بقايا اليسار العربي التقليدي، وهو يسار تعوّد بشكل عام على التعامل مع النظريات الثورية والتقدمية الناشئة في الغرب، بذهنية شرقنا الإيمانية، فحولها من فلسفات ونظريات إلى معتقدات وقوالب إيمانيّة، وفي طليعة هذا اليسار العربي والسوري، يأتي بالطبع معظم الشيوعيين، الذين تحوّلت الماركسية بالنسبة إلى أكثريتهم إلى ما يشبه الدين، وتوقف التاريخ عندهم عند عام 1917.


بالنسبة لمثل هذا اليسار، رغم انهيار التجربة السوفييتية والمعكسر المرتبط بها، لم يتغير شيء في طريق التفكير، وبدلاً من التحليل المنطقي والموضوعي والنقدي الدقيق لهذه التجربة العظمى، فقد تم تقزيمها إلى الشكل الذي اعتبر فيه سقوطها مجرد مؤامرة قام بها المتآمر غورباتشوف وأعوانه. 


وهذا اليسار يستمر حتّى اليوم في اجترار مقولاته الثورجية، وتكراره الببغاوي لمفاهيم اليسار واليمين التقليدية، وإسقاطها على الواقع كقوالب جاهزة، وبالنسبة له لا يتم التمييز بين حسنات وسيئات التجربة الغربية، فكما هو الغرب مجرد فاسق كافر بالنسبة للذهنية الإسلاموية، فهذا الغرب هو فقط رأسمالي إمبريالي متصهين بالنسبة لمثل هذا اليسار، وبصفته هذه تتم شيطنته ككل، بل واعتباره أيضا الشيطان الأكبر، ومصدر كل الشرور الأساسي، وحتى الأوحد أحياناً، ما يجعل الديمقراطية الغربية نفسها شراً من كبار هذه الشرور، وشركاً يستدرج الغرب الخبيث من خلاله الشعوب الجاهلة لكي تقع في براثنه.


وهكذا بلّغ الكثيرون من هؤلاء اليساريين المزعومين ذروة إفلاسه في موقفه من الربيع العربي، معتبراً إياه مؤامرة صهيونية إمبريالية، سواء في سوريا أو في سواها من بلدان هذا الربيع الأخرى، وهذا ما فعله ويستمر في فعله _مثلاً_ شيوعيو السلطة في سوريا، الذين اعتبروا كل ما يجري في سوريا والبلدان العربية الأخرى منذ بداية 2011 وحتى اليوم مؤامرة، ووقفوا ضد كل القوى المنتفضة بشكل محموم ودون تمييز، وهذا ليس جديداً من قبلهم تقريباً، فقد وقفوا نفس الموقف تقريباً من حركة ربيع دمشق التي سبقت الربيع العربي بعقد من الزمن تقريباً، وذهبوا في العديد من الأحيان أبعد مما ذهبت إليه السلطة السورية نفسها.


بالنسبة لهؤلاء اليسارجيون صار عملياً من الواجب على الشعب التخلي عن كل استحقاق وطني داخلي، والتغاضي عن كل فساد وخطل داخليين، من أجل التفرّغ والتركيز على “المهمة المقدسة العظمى”، المتمثلة بمقاومة وممانعة الإمبريالية العالمية ورأسها الأمريكي المتصهين، ولا يهم أن يكون المقاوم والممانع، شكلياً وشعاراتياً في مقاومته وممانعته ويتّخذهما ذريعة وغطاء لسياسة قمعه واستغلاله لشعبه والاستمرار بالسيطرة عليه والتحكم به كما تفعل المنظومة الحاكمة في سوريا، التي يتحالف هؤلاء اليسارويّون معها، ويتبعونها في حقيقة الأمر.


ومن العجب العجاب أنّ هؤلاء اليسارويين، الذين ما يزالون يتغنون بالثورية ويمجّدون ثورات الشعوب، ينكرون كل هذا على شعوب دول الربيع العربي، حتى تلك التي عرفت أنظمتها أقصى درجات التبعية والخضوع للغرب كمصر مبارك، ولكن عندما يعرف السبب يبطل العجب، فبما أنهم يساريو سلطة في سورية، فدفاعهم عن موقعهم وانتمائهم يقتضي منهم رفض وإدانة كل من يعارض هذه السلطة في سورية، ومن يشبهه في سواها من الدول العربية، وبالتالي رفض الحراك المعارض الذي انتقل إلى سوريا كجزء من حراك الربيع العربي، لابد من رفض وإدانة كل هذا الربيع ووصمه بالعمالة والمؤامرة لتبرئةً السلطة في سوريا وتبرير موقع هؤلاء اليسارويين من هذه السلطة التي تستتبعهم. 


أما العينة الخامسة من أصحاب الخطابات الجنائزية، فهي عينة أنصار الاقتصاد النيولبيرالي، التي كانت وما تزال تصرّ على جلب وصفات وقوالب اقتصادية من الغرب الرأسمالي، ثبت فشلها وعواقبها الوخيمة، فهذه العينة ما تزال تؤكد على لبرنة الاقتصاد وتحريره بالكامل، وإطلاق العنان للسوق، وتقليص أو إلغاء دور الدولة فيها، ما يعني فعليّاً تحول هذه السوق نفسها إلى ديكتاتورية اقتصادية تتحكم فيها طغمة من الرأسماليين، ومعظمهم في الحالة السورية من الرأسمالية الطفيلية الكومبرادورية التجارية، التابعة كوسيط تجاري لمراكز الانتاج العالمية الأجنبية، ومعظم المتبقي منهم، هم بدورهم منتجون لسلع خفيفة لا تصنع اقتصاداً متقدماً متيناً، وهادرون لحقوق عمالهم، ومتلاعبون بالأسعار، وشركاء مع المسؤولين الحكوميين الفاسدين في الاستئثار بثروات البلاد والاستحواذ عليها.


وهؤلاء النيوليبراليون، يقدّمون الرأسمالية بصورة النظام الاقتصادي الأمثل، الذي يعد الشعوب بالمنّ والسلوى والسمن والعسل، متجاهلين أنّ هذا الاقتصاد في بلاده الأم أفقر ملايين الناس وقذفهم إلى ما دون خط الفقر، وتنامى فيه الجشع إلى درجة التوحش، وهو اليوم في شكله المعولم أو المؤمرك، ينعكس بأسوأ الأشكال على معظم شعوب العالم، ويتسبّب بطرق مختلفة بأعنف الصراعات المدمرة، التي تنشأ إما كعاقبة له، أو تثار خدمة لأطماعه.


وهذه العينة تتجاهل أيضاً أن الرأسمالية التقليدية بدورها اقترنت بأوسع وأكثر أشكال الاستعمار التقليدي حدّة، الذي لم تتعافَ من آثاره شعوب عديدة في العالم حتى اليوم، وأنّ هذه الرأسمالية تسبّبت بحربيين عالميتين كارثيتين، بلغت ضحاياهما عشرات الملايين، عدا الحروب الأخرى بين المستعمرين أنفسهم أو بينهم وبين شعوب الدول والمناطق التي استعمروها، إضافة إلى إبادة معظم السكان الأصليين لقارّة أمريكا، واستعباد عشرات الملايين من الأفارقة.


كما أنّها تتعامى عن رؤية حقيقة جليّة وكبيرة من حقائق الأمس القريب، فالاقتصاد النيوليبرالي، الذي جاء كبديل للرأسمالية التقليدية التي أعلنت نهايتها الفاشلة في أزمة 1929، وكانت السبب الأكبر والأهم لاندلاع الحرب العالمية الثانية، هو الآخر_أي النظام النيوليبرالي_ سقط سقوطاً ذريعاً في الأزمة التي وصل إليها بين عامي 2007-2008، والتي كادت أن تودي بالاقتصاد العالمي كلّه إلى الهاوية، والتي لم يتعافَ العالم ككل بعد من آثارها وعواقبها حتّى اليوم.


وفي هذه الأزمة الأخيرة، أسقطت السوق المنفلتة نفسها في الهاوية، وعجزت عن الخروج منها، فأخرجتها “الدولة” وذلك عبر ضخ تريليونات من الدولارات واليورهات، المجموعة من جيوب دافعي الضرائب وجلّهم من الطبقات الدنيا والمتوسطة، لأنّ الكثيرين من كبار الرأسماليين يهربون من الضرائب بأساليب ملتوية عديدة، وأموال الضرائب هذه يفترض بها أن تستخدمها الدولة في الخدمات العامة الموجهة إلى رفع سوية حياة شعوبها.


لقد أنقذت الدولة السوق بأموال الشعب، ولو طبق المبدأ الأساسي في اقتصاد السوق، المتمثّل بفصل السوق عن الدولة، لكان على الدولة أن تترك السوق تحل مشاكلها بنفسها ولانهارت السوق، ولكن الحيلة الرأسمالية الخبيثة حولت الدولة إلى خادمة للسوق، تنبذها هذه السوق قي أيام عزّها، وتمتطيها في أيام ذلّها، وتستخدمها لتنظيف أكوام القمامة والأوساخ التي تنتجها وتوشك أن تغرق هي نفسها بها وتغرق معها الدولة والمجتمع.


هذه بضعة نماذج من الخطاب المتفسّخ، الذي ما يزال ينتشر على ساحتنا السورية وسواها من الساحات العربيّة، وثمّة غيرها بالطبع نماذج عديدة أخرى تنتمي إلى نفس الطبيعة، ويطول عنها الحديث.


وقد تناولنا هنا أكثر هذه النماذج انتشار وأخطرها، في محاولة لتعريتها وبيان تهافتها، وعدم صلاحيتها للحياة، وأنها ليست سوى أساليب في الخطاب الذي يستخدم لغة ميتة مسمومة، ولا يمكن أن يؤدّي إلّا إلى موتنا الإنساني وانعدام مستقبل الحياة.


ليفانت – رسلان عامر  

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!