الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
غرق الحضارات.. الشرق المريض يُغرق معه العالم
مصطفى عباس

أستطيع أن أقول إنّ كتاب غرق الحضارات لأمين معلوف هو في بعض جوانبه تكرار لكتابه السابق “اختلال العالم”، مع شيء من التوسعة وتغير في النظرة، ففي اختلال العالم كان معلوف متفائلاً بوصول باراك أوباما ذي الأصول الإفريقية إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، ولكنه في “غرق الحضارات” أصبح متشائماً كثيراً، بل يشاهد بعينيه تهاوي الحضارات، بعد ارتفاع أسهم اليمين المتطرّف في غير مكان حول العالم، وتراجع نسبة قبول الآخر المختلف، واستمرار الهجمات الإرهابية، رغم القضاء على تنظيم داعش.


الأم مصر


يرى معلوف أنّ “أمه” مصر، التي عاش فيها طفولته، في أسوأ أحوالها، وثورة الضباط الأحرار التي قادت الثورة على الحكم الملكي، وأوصلت جمال عبد الناصر إلى الحكم، لم تتقدّم معها مصر إلى الأمام، إنما تراجعت ليس فقط في مستوى الحريات، بل في كل شيء، بعدما كانت مصر أحد الدول الجذابة بالنسبة للأجانب، أصبحت منفرة حتى لأهلها.



يقول معلوف، إنّه لم يستطع أن يمنع نفسه من التعاطف مع عبد الناصر خلال خطبه القومية الحماسية، بخلاف عائلته التي اكتوت بنار الأخير عندما قرر تأميم الشركات، ولكنه في ذات الوقت يشير إلى أنّ المجد الذي بناه عبد الناصر كان خاوياً، خصوصاً خلال العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي على مصر، والذي توقف بضغط أمريكي، خرج معه عبد الناصر منتصراً، دون أن يخوض المعركة، سيما وأنّه خسر كل الحروب التي خاضها. وبعد عبد الناصر جاء أنور السادات، الذي شهد عصره انفتاحاً مصرياً على العالم، وأكمل محمد حسني مبارك ما بدأه السادات مع انفتاح على العالم العربي، الذي كان مقاطعاً لمصر عقب اتفاقية كامب ديفيد، ولكن مبارك الذي أراد أن يبقى في السلطة، ويورثها لابنه، لم يستطع أن يحسّن الوضع المعيشي والصحي والتعليمي، فكانت عليه ثورة يناير عام 2011، ثم الانتكاسة الحاصلة الآن في مصر على جميع الجهات، إلى أن باتت مصر غير مرهوبة الجانب، حتى من دولة إثيوبيا.



لن أذهب إلى حد القول، بأنّ ألسنة اللهب التي أحرقت وسط القاهرة، في يناير عام 1952، وتلك التي أشعلت البرجين في نيويورك، بعد نصف قرن، تعودان إلى الحريق نفسه، ولكن الجميع يرى علاقة سببية بين غرق مشرقي الأم وغرق الحضارات الأخرى.


لبنان حزب الله


ورأى معلوف “أباه” لبنان، كما سماه، يعيش هذه الآونة أسوأ أيامه منذ نشوء الجمهورية اللبنانية عام 1936، على يد الفرنسيين، لا يدخل الباحث في تفاصيل كثيرة بهذا الخصوص، ولكن بلد الأرز الآن لا يخفى وضعه على أحد، وهو في انحدار متواصل، منذ سيطرة حزب ميليشيا حزب الله بقوة السلاح على مفاصل الحكم هناك، منذ أيار عام 2008، وصولاً إلى اليوم، إذ إنّ ذلك البلد الذي كان يسمى سويسرا الشرق، لم يعد قادراً حتى على جمع النفايات من الشوارع، وبعد سريان قانون قيصر الذي تعاقب بمقتضاه الولايات المتحدة النظام السوري على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، يحاول حزب الله الذي ينوء بأوضاع لبنان الاقتصادية السيئة أن يساعد حليفه السوري المنهار بالأساس، وعليه بات الانهيار الاقتصادي في لبنان شبه وشيك.


الأسوأ ليس مؤكداً


فرنسا بلد معلوف بالتبني، كما يقول، جاءها مهاجراً بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، يبقى الوضع فيها أفضل من غيرها، ولكنها لا تعيش أفضل أيامها، وهي ومن ورائها أوروبا يعول عليها معلوف كثيراً في مساعدة العالم قبل الغرق، هو ناقوس الخطر، أو الإنذار الأخير، ما لم تقم أوروبا بمسؤولياتها الحضارية والأخلاقية، بعد تفعيل الاتحاد الأوروبي، عقب خروج بريطانيا منه، والتصدي لليمين المتطرف، وينقل معلوف في خاتمة كتابه اقتباساً عن بيدرو كالديرون لاباركا قوله “إنّ الأسوأ ليس أكيداً على الدوام”.


الردة الكبرى


يشير معلوف في هذا الكتاب إلى ما أسماه الردة الكبرى في العالم، والتي انطلقت منذ السبعينيات في العالم الغربي الذي صنع الحضارة الحديثة، وبدأت بعدها عمليات التراجع، حيث تقهقرت الأحزاب والحركات اليسارية والثورية، أمام الأحزاب اليمينية والمحافظة التي وصلت إلى السلطة في بريطانيا مع تولي مارغريت تاتشر رئاسة الوزراء، وفي الولايات المتحدة الأميركية مع وصول رونالد ريغن، وما تلا ذلك من انهيار الاتحاد السوفييتي وانفتاح الصين التي كانت متزمتة اقتصادياً على الاقتصاد الحر للعالم، دون تحقيقها الحرية السياسية. ردة كان لمنطقتنا منها نصيب الأسد، خصوصاً مع الثورة الإسلامية الإيرانية، التي جعلت الانتماءات البدائية تتصاعد، ففي لبنان كان الجنوبيون أهم أعضاء الأحزاب العلمانية، ولكنهم بعد ثورة الخميني أصبحوا أعضاء في حلف ولاية الفقيه، وفي كل المنطقة تأثرت الأحزاب الإسلامية بهذه الثورة، سواءٌ إيجاباً، كجماعة الإخوان المسلمين، أو سلباً كالجماعات الجهادية التي ازدادت نزعة التطرف عندها، كنوع من ردة الفعل على الثورة الإيرانية، التي هي في جوهرها ثورة أصولية ولكن مغايرة للجهادية السلفية.


مزايا معلوف


“غرق الحضارات” الذي صدر العام الماضي عن دار الفارابي، بترجمة نهلة بيضون، هو ضمن حلقة ضمن سلسلة نذر معلوف نفسه للعمل عليها، بدأها بكتاب “الهويات القاتلة” ثم عدد من الروايات وكلها مسكونة بصراع الهويات، والخوف على مصير العالم الذي نعيش فيه، وضرورة التعايش بين الثقافات المختلفة، على قاعدة من العدل والمساواة وليس الإقصاء والتهميش، من رواية “التائهون” إلى رواية القرن الأول بعد “بياتريس” ورواية “سلالم الشرق”.


معلوف الذي انتخب في عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية، حاز العديد من الجوائز الأدبية والأوسمة، أهمها وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، سيجد القارئ عنده مزايا قلما يجدها مجتمعة في غيره:


1- السرد المحكم القائم على الحبكة الدرامية المثيرة والجذابة.

2- المتون الرشيقة ذات الرتم السريع، فكتب وروايات أمين معلوف تكاد تخلو من الحشو الذي يغلب على لغة الكثير من الروائيين.

3- إضافة إلى المزيتين السابقتين.. تجعلك رواياته تعيش في التاريخ وتفهم العصر الذي يتكلم عنه وتحالفاته السياسية وتبدلاتها.

4- هو موضوعي في أغلب طروحاته، وليس من أصحاب المواقف الحادة.


ليفانت – مصطفى عباس  

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!