-
عن ميشيل كيلو ورحيل المصابيح
واحداً تلو الآخر تنطفئ مصابيح الوطنية السورية بعد سنوات عشر عجاف من عمر الثورة السورية وبعد معاناة كل تلك القامات الوطنية السورية على مدى عقود في مقارعتها لنظام الاستبداد عبر عتمته التي حاقت بالسوريين منذ عقود.
لعل رحيل الأستاذ ميشيل كيلو قبل أيام يشكل حلقة من مسلسل طويل عنوانه (رحيل المصابيح) عن الوطن السوري ولن تكون الحلقة الأخيرة، لكن مخرج العمل يبدو أنّه اقتبس أسلوب مسلسل صراع العروش الشهير، والذي دأب على قتل أبطاله واحداً إثر آخر. فمسلسل رحيل المصابيح الذي بدأ عام 2011 والذي بدأت مشاهده الأولى بمقتل الأطفال، كحمزة الخطيب، تحول بعد عدة حلقات ليبدأ سلسلة إزهاقات لأرواح الورود الشابة كغياث مطر ربما ليتحول في فصوله الأخيرة نحو من هم أكبر عمراً ليسرق إحدى وثمانين عاماً عاش بطلها ميشيل كيلو أكثر من خمسين منها في العمل لأجل انتصار قيم الحق والعدالة والمواطنة.
حلقات كثيرة في المسلسل السوري الذي أجاد أبطاله تأدية أدوارهم لا كممثلين، ولكن كبشر شغوفين بالحرية، فمن صادق جلال العظم إلى سلامة كيله إلى طيب تيزيني مروراً بفدوى سليمان ومي سكاف وناجي الجرف وصولاً إلى حبيب عيسى وميشيل كيلو، تحولت الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي إلى خيمة عزاء وبوح فيه الكثير من المعاني المؤسسة للفكرة الوطنية الجامعة، فهؤلاء وبكلمة واحدة هم سوريا المثقفة والمتنوعة، وهم من أسقطوا وفي كثير من المفاصل الكذبة الطائفية المارقة بالضربة القاضية، فدفعوا كلفة مضاعفة نتيجة ذلك، ملاحقة واعتقالاً وموتاً صاخباً في المنافي وفي الوطن.
رحل كل هؤلاء وسيرحل غيرهم بسنة الموت التي لن تستثني أحداً، لكن ذاك الرحيل وأصداءه وارتداداته الحزينة إنما يجب أن تجعلنا أوفياء لكل هؤلاء وأوصياء على رسالتهم الوطنية الجامعة، وهنا ليس المراد تقديس أو تمجيد أحد أو التعامي حتى عن بعض الخيارات أو الحسابات الخاطئة لبعضهم ونقدها وهذا أمر مفهوم في سياق أي عمل بشري ووطني وبالتحديد سياسي بل المطلوب هو العمل المنظم والعقلاني على ما يعيد جمع السوريين تحت خيمة واحدة أعمدتها الحرية والتنوع والكرامة الإنسانية، وتلك هي المهمة الجليلة التي يجب تعميدها بالانفتاح على بعضنا البعض والخروج من دوائر الاستقطاب الضيقة والقاتلة نحو بلاد أكثر كرامة وأزهى حرية.
وليكن بعلم السوريين دائماً أنّ العتمة وإن لم تكن أبدية وزائلة حتماً لكننا بحاجة كثير من المصابيح وبألوان متعددة من الأيادي السورية ولعل حملة مصابيح التنوير الفكري والثقافي هي أهم المصابيح التي يحتاجها السوريون اليوم، والتي يجب العمل عليها بأيادٍ تجيد إضاءة أكثر البقع قتامة في الواقع السوري وبكلمة أخرى وربما تكون قاسية بعض الشيء. نحن بحاجة لمن يشرح لنا ما هو الوطن وماهي الحرية وما هي حقوق الإنسان وما هو الدستور وما هي الدولة وما هي السلطة وما هي الأمة وما هو التعاقد الاجتماعي وما هي الهوية... إلخ.
وقد قلت قاسية لأنّ الواقع السوري بعد أكثر من خمسة عقود من حكم الحزب الواحد والقبضة الأمنية الرابضة في ثناياه وعقد من الثورة عليه بقضها وقضيضها كشف النقاب ربما عن مكمن الهشاشة في وعي السوريين لكل تلك المفاهيم والتي صنعها النظام على صورته ومثاله الأمر الذي شوهها ومسخها وأصبحت حاضرة كتابوهات في وعي الكثيرين ومنمطة في كثير من الأحيان، وبالمقابل لم تستطع القوى المضادة له تكريس فهم مختلف لتلك المفاهيم بحكم القبضة الأمنية التي زجت بمروجي القيم الإنسانية الحداثية، كالديموقراطية والحرية والمدنية في ظلمة السجون.
إنّ المدخل الأساسي للتعامل مع القضية السورية اليوم لأي فرد أو تيار أو حزب غير قادر بحكم موازين القوى اليوم أن يصنع تأثيراً أو حتى أن يكون حاضراً في تقرير مصير بلاده يجب أن يتبنى هذا الممر الإجباري للعبور نحو مستقبل أكثر أماناً أما التمترس فقط خلف قرار دولي لا نعرف متى سينفذ ومن هي الجهة التي ستنفذه ووفق أية تسويات فهذا إنما يمثل وإن تحقق غداً وعلى أهميته مجازفة بالغد السوري الذي لم يتعدل وعي حاضره بعد.
إنّ الشعب السوري اليوم يشبه ذلك الطفل ذا الأعوام الأربعة الذي دخل ميشيل كيلو يوماً إلى زنزانته ليروي له قصة بناء على طلب من سجان لديه ملمح من الإنسانية فكان أن بدأ الأستاذ ميشيل بالقول: كان في عصفور.. ليسأله الطفل مباشرة: ما هو العصفور؟ فاحتار الأستاذ ميشيل كيف سيشرح له فكرة العصفور، وقال له: على الشجرة. فسأله الطفل: ما هي الشجرة؟ ليكتشف بعدها أن هذا الطفل ولد في السجن لأنّ أباه مطلوب للسلطات الأمنية فتم اعتقال زوجته للضغط عليه وتسليم نفسه.
نعم إننا بحاجة من يعرف لنا الوطن والحرية والدستور والعدالة والتنوع والاختلاف والهوية والسياسة والحقوق من جديد، وبحاجة إلى مصابيح جديدة تستمد ضوءها من كل تلك القامات السورية الباسقة التي كتبت فأضاءت وصرخت فكسرت جدران الصمت.
ميشيل كيلو وغيره أيها السوري الحر أدى ما عليه ورحل، أما أنت فأضئ مصباحاً جديداً وافعل ما يجب فعله لصون كرامتك وحريتك خير لك ألف مرة من أن تلعن الظلام.
ليفانت - أسامة هنيدي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!