الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٧ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
عمل غير شاقّ.. مهنة تافهة
عبير نصر

لا يمكن لأحدنا أن ينقل الصورة الحقيقية عن حالة الرعب التي يعاني منها السوري، حيث القتل مجانيّ على الهوية، أو حتّى بدافع غريزة الدم وحالة التوحش التي سادت بين الفرق والكتائب المتناحرة، بحيث بات الموت مهنة تافهة، وعملاً غير شاقّ على الإطلاق. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف وصل الشعب السوري إلى هذا الدرك المنحط من الأخلاق؟ هو الذي كان يفخر بالحالة المدنية والثقافية والتعايش والمحبة بين مختلف المكونات المجتمعية، وذلك ضمن موزاييك حقيقي، هل كان فعلاً مجتمعاً مدنياً أم كان يخبئ هذا الحقد والتوحش الآدمي وينتهز الفرصة لينحر كلّ القيم الأخلاقية التي كان يتشدّق بها كذباً ونفاقاً؟

من هو المسؤول عن كلّ هذا الرعب والعدم: هل هو النظام الحاكم بتاريخه القمعي الدموي، في وقتٍ ظنّ السوري فيه أنّ تلك "السكينة الأمنية" نوعٌ من التحضّر والمدنية والسلم الأهلي أم هي الثقافة المتوارثة عن تاريخِ المنطقة الملتهبة الحافلة بالمجازر والغزوات وجزّ الرؤوس وسبي النساء؟ وفي المحصلة فقدَ السوري آدميته أمام الوحش الذي كان يدربه في مناطق الظلّ من شخصيته المنهزمة والمقهورة أمام الطغيان.

لا يخفى على أحد أنه بعد عام 1963، شهد السوريون موت كلّ شيء حيّ. موت صار أشبه بعبادة تشبيحيّة اخترعها "أبدُ الأسد"، بحيث لا نرى في أجواء سوريا وأرضها المثلومة المحروقة إلا أشباح آلهة ورسل الموت. وحقيقة لم يعد موتُ السوريين مقتصراً على الجبهات وفي المعتقلات والمخيمات كما درجت العادة. فهناك دائماً طرق مبتكرة أخرى للعدم السوري من قبيل: "مع طريق البلقان المكتظ بحرسٍ مسلَّح بهراوات وكلاب مسعورة عند الحدود، يحاول كثيرون عبور البحر، وهكذا مات سبعة لاجئين سوريين، هم أربعة أطفال وثلاث نساء، جوعاً وعطشاً ومن حروق شديدة في قارب كان يعبر بهم المتوسط مع /19/ آخرين..

أفادت هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية في بيان عن رصدها "إصابات بمرض الكوليرا في الرقة (شمال) والريف الغربي لدير الزور (شرق) بكثرة"، مؤكدةً تسجيل ثلاث وفيات. استهدف انفجار بدراجة نارية مفخخة مخيم توينة غرب مدينة الحسكة السورية، وسط أنباء عن سقوط ضحايا بينهم أطفال. قُتل سبعة أشخاص على الأقل وأصيب 15 آخرون جراء ضربات روسية استهدفت منزلاً ومنشرة لقصّ الحجر قريبة منه في منطقة سهل الروج في ريف إدلب الغربي، بينهم ست نساء وثلاثة أطفال، قتلى بانهيار مبنى في حلب، حيث أعلنت سلطات النظام السوري أنّ عشرة أشخاص على الأقلّ لقوا مصرعهم في انهيار مبنى بمدينة حلب في شمال البلاد... إلخ.

تأسيساً على ما تقدّم، يلتقي الموت السوري في لا محدوديته مع تاريخ الطغيان الفسيح، حتى أنَّ حاكماً مستبداً، كالأسد، قد يجعل المجتمع قبراً عاماً، دون أن يرفَّ له جفن. الموت لا يُبّرر مهما يكن، ولا يتمّ البحث عن غاية وراءه إلا داخل سردية دينية أو سياسية متطرفة. غير أنّ الطاغية السوري يشحن هذا الجانب نظراً لعدم القدرة على تغيير الأوضاع للأفضل. لا يترك خياراً مفتوحاً، كلّ الخيارات تؤدي إليه في نهاية الأمر. في المقابل عندما لاح في الأفق السوري خيالُ الدولة الفاضلة (يوتوبيا) خلق طاعونُ النظام الأسود من سوريا قارةً جغرافيتها العدم المطلق والدمار المطلق. إذ عرض تقرير "أي بي سي" مداخلة للباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) نيل كويليام، الذي قال "ليس هناك شك في أنّ الأعوام الخمسين من حكم عائلة الأسد، التي اتسمت بالوحشية والقسوة والتدمير الذاتي، تركت الدولة في حالة لا يمكن وصفها إلا بالانكسار، وكادت تتوارى في طي النسيان".

بطبيعة الحال، سيّس النظام السوري الموت وقنّنه من خلال ممارسة السلطة. بمعنى أنَّ الموت السوري ليس واقعة فردية، إنه قابل للتعميم. فهناك آثاره، هناك الخوف منه، هناك حلول دلالته رغم عدم ظهورها. وهنا تكمن في كلّ شكلٍ من أشكاله نبرةٌ سياسية خفيفة الوقْع، لكنها بالغة التأثير بدرجة كبيرة، ولا سيما عندما يجعله المستبد ممنوعاً من حريته الداعية للاندهاش. والمستبدّ دائماً لا يقبل اندهاشاً من أيّ نوع كان. لأنَّ قمع الموت ووضعه، بشكلٍ مدروس، في إطارٍ طارئ يمكّنان النظام من ممارسة أدواره اللاهوتية. فنحن عادةً ما ننسب القدر إلى قدرات الإله، و"الدولة الأسدية" وباعتبارها مسكونة بفكرة الألوهية، فإنَّها الوريث الحداثي الأرضي لتلك القدرات، تروّض فكرة الموت منتزعة سلطتها لنفسها.

من السهولة أن تَقتل ومن السهولة أن تُقتل ولكن هذا يُحدث ثقباً في الوجود. وفي هذا كان لافتاً الانفجار المذهل للموت خلال الأحداث السورية. كأنَّ الاستبداد قد وضع المتظاهرين طوال سنوات على هذا الهوة. ولم تستنكف الآلة الإعلامية في تفريغه من معانيه. لتضع عناوين سياسية بديلة. قيل: مؤامرة، مخالفة القانون، خلخلة الأمن، تهديد السلم الاجتماعي. ما يؤكد هذا إحدى أشهر أقوال الأسد الابن، حين كان يستعدّ لوراثة الكرسي: "لا توجد طريقة أخرى لحكم مجتمعنا إلا بوطء رؤوس الناس بالحذاء"، كما ذكر سام داغر، الذي عمل مراسلاً لصحيفة "وول ستريت جورنال" من دمشق لسنوات.

وقالت الصحفية الألمانية، كريستين هيلبرغ، التي عاشت بين عامي 2001 و2008 في العاصمة السورية، وأصدرت كتباً عدّة تحت حكم الأسد: "في الواقع، لم يكن بشار مصلحاً، فلم يكن راغباً أو قادراً على التخلي عن السلطة أو تغيير هيكل حكم والده بشكل جذري. لقد كان، وما يزال، طفلاً في دولة بوليسية عمرها خمسين عاماً، تقاد بشكل مستبد على كلّ المستويات وتستغل من قبل عشيرة حاكمة عديمة الضمير، حتى ولو كان مظهره لا يشبه مظهر ديكتاتور فج". ولنزد من الشعر بيتاً لتعزيز نظرية تطرّف الأسرة الحاكمة، أنْ أكد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، الذي التقى الأسد الأب مرات عدّة: "لقد كان رجلاً وحشياً، لكنه ذكي، قضى ذات مرة على مدينةٍ بأكملها ليقدم درساً  لخصومه"، في إشارة منه إلى مذبحة عام 1982 في حماة، التي تعدّ من أسوأ المذابح في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.

في تقريرٍ جديد لها، حذرت الأمم المتحدة من خطر تصاعد الصراع السوري بعد اندلاع عدّة جبهات في جميع أنحاء البلاد مؤخراً. وقال باولو سيرجيو بينيرو، رئيس لجنة التحقيق بشأن سوريا التابعة للأمم المتحدة: "لا تستطيع سوريا تحمّل العودة إلى القتال على نطاق أوسع لكن هذا هو ما قد تتجه إليه". ومهما لاح في الأفق السياسي من مستجدات، يبقى أن نعترف أن انتصار الأسد الوحيد تجلّى في قدرته على تصوير الحرب ببراعة على أنها خيار بين حكمه العلماني وبين حكم المتطرفين الإسلاميين، أبرزهم داعش، حتى أصبح العالم بأجمعه مقتنعاً بأنه "أهون الشرّين".

مسلسل الموت السوري مستمرّ على يد النظام العدمي، فأصبح هو الحياة وقرينها، لتفقدَ الحياة نفسها المعنى والقيمة والمضمون. وعندما تتراجع الحياة يصبح الموت هو المعنى ويصبح العدمُ الطريقَ ونهاية الطريق. نعم.. لقد أصبح موتُ السوريين عادة وأفيوناً، بل استحواذاً يأسر النفوس في كابوسه الرهيب فلا يستطيعون الإفلات منه.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!