الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
عقد الانتصار الروسي والإنتظار الأمريكي
منى غانم

يمكن بجدارة تسمية العقد الماضي من هذا القرن بعقد الانتصارات الروسية التي حققت الكثير من التوسع الجغرافي في مناطق ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لحلف شمال الأطلسي. فلقد استطاعت موسكو تحقيق انتصارات في كل من أوكرانيا وسوريا، واستطاعت ضم شبه القرم، ونجحت كذلك في بناء علاقة تعاون بالغة الأهمية مع أنقرة وطهران بما يحقق لها ضمان النفوذ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.


في الوقت نفسه تمكنت بشكل كبير من إضعاف حركات الإسلام الجهادي في الشرق الأوسط وإعادة الاعتبار لدور الجيوش في سياسة بلدان الشرق الأوسط من خلال إنقاذ النظام السوري ودعم كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر في معركته ضد الإسلام السياسي في ليبيا المتمثل بحكومة الوفاق. لعل الإنجاز الأهم يكمن في وصول روسيا إلى مياه البحر المتوسط من خلال العقود التي تم توقيعها مع السلطات السورية الحالية بما يضمن الوجود الروسي في مدينة طرطوس المطلة على المتوسط لمدة 50 سنة قابلة للتجديد.


ربما لا تمثل هذه الانتصارات سوى جزء بسيط من أحلام سيد الكرملين الذي يعتبر انهيار الاتحاد السوفيتي أسوء كارثة سياسية شهدتها البشرية في القرن الماضي. يتطلع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استعادة أمجاد الدولة التي ولد فيها وخدم في أجهزة استخباراتها. لتحقيق هذا الغرض، يعتمد في سياسته الخارجية على العقيدة الروسية العميقة التي وصفها تشرتشل بأنها الإحساس بالقوة، خاصة العسكرية منها، والعمل على تحقيق المصالح الوطنية الروسية بشكل مطلق دون أي اعتبارات أخرى.


يرغب الرئيس الروسي في تقويض المؤسسات الغربية التي لا تتوانى عن انتقاد السياسيات الروسية من ناحية التزامها بقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بيد أن لبوتين ثأر أهم مع حلف شمال الأطلسي الذي انتزع من الاتحاد السوفيتي المنهار العديد من الدول وضمها إليه، مما وسع حدود الناتو وجعلها أقرب إلى روسيا الناهضة من كبوتها التاريخية.


في هذا السياق، عمل بوتين على تحقيق تقارب تاريخي مهم بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردغان، الذي يملؤه الإحباط من الدول الأوربية بسبب فشل ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، كذلك بسبب الانتقاد الأوربي المستمر لسياساته الداخلية. كما ساهم التقارب بتوسيع النفوذ الروسي في البحر الأسود من خلال القدرة على الاستفادة من مضائق ومعابر البحر الأسود التي تقع تحت سيطرة أنقرة وفقاً لاتفاق مونترو لعام 1936. أدى التفاهم الروسي -التركي إلي إعادة سيطرة النظام السوري على الكثير من الأراضي المحيطة بالعاصمة السورية دمشق، بعد أن كانت لسنوات معاقل محصنة للمعارضة المسلحة.


لا تبذل الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الجهد لمواجهة هذه الانتصارات الروسية، خاصة بما يتعلق بما حققته موسكو في القرم أو أوكرانيا. تعتمد واشنطن في سياستها على احتواء روسيا وإضعافها من خلال تطبيق العقوبات الاقتصادية من دون أي مواجهة عسكرية غير مضمونة النتائج نظراً لقوة آلة الحرب الروسية.


ربما يستذكر الساسة الأمريكان ما يسمى "التلغرام الطويل" الذي أرسله الدبلوماسي الشاب في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في موسكو في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي. يتضمن هذا التلغرام تأكيدات حاسمة عن انتصار الولايات المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي نظراً لضعف آليات إدارة الدولة وتدهور الاقتصاد الوطني.


ربما تراهن واشنطن على مبدأ أن التاريخ يعيد نفسه، فعبر تاريخ روسيا الطويل لم يسبق أن انهارت روسيا من الخارج بسبب الجغرافيا الممتدة التي تشكل عقبة في وجه أي غزو للبلاد، ففي كل المرات التي انهارت فيها روسيا سياسياً كان بسبب انهيارها اجتماعياً من الداخل. بينما استطاعت روسيا القوية اقتصادياً تحقيق انتصارات عسكرية هامة على كل من نابليون في عام 1812 وهتلر في عام 1941.


من هنا، تشكل العقوبات الاقتصادية وسيلة أمريكية مهمة لاحتواء انتصارات روسيا الخارجية، فضلاً عن توجه واشنطن بعدم العمل الجدي لإيجاد حلول سياسية للأزمات الدولية المنخرطة فيها روسيا كسوريا، الأمر الذي قد يخلق أزمات جديدة لموسكو.


يبقى الرهان على سياسات بوتين الداخلية للوقوف بوجه التاريخ الذي يريد أن يكرر نفسه وذلك من خلال تطبيق إصلاحات اقتصادية واسعة ومحاربة الفساد الداخلي وتعميق الشعور بالمواطنة بين الروس، الأمر الذي يحتاج إلى مبحثٍ آخر.


لحين ذلك... ستبقى اللعبة السياسية الدولية لعبة انتظار لا يدري أحد طول مدتها، لكن تدفع ثمنها الشعوب المقهورة، خاصة الشعب السوري والليبي.


منى غانم -كاتبة سورية

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!