-
سياسة احتكار الفضيلة
"الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أنّ الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن، فالحرية هي أساس الفضيلة". الشيخ محمد الغزالي.
احتكار الفضيلة هو حرب التفضيل والتفاضل، في التفضيل والتفاضل يمتلك "المفضل" أو "الفاضل" سلطة ما، سواء كانت أدبية أو مادية. تمييز الناس وفقاً لمعيار ما، هذا المعيار يختلف من شخص لآخر، حسب اشتراطاته الدنيوية، سواء كانت تختفي خلف معايير سماوية أو وضعية، بالتالي يتنازع البحث هنا محايثين أحدهما أخلاقي والثاني تاريخي، حيث جرت العادة إعادة مفهوم الفضيلة للمبحث الأخلاقي - الديني. ما يعني أن الاخلاق - الدين فوق التاريخ، فوق التاريخ كنسق متعالٍ. ليس بالضرورة أن يكون مطابقاً لتاريخه في كل لحظة. يجب أن يبقى مفارقاً لتاريخه، عموماً، وللتاريخ، خصوصاً. هذا التفارق يحتاج عادة إلى حماية. حماية من التاريخ نفسه. سلطة سلاح تجمعات سياسية أو خلافها. المحصلة أن احتكار الفضيلة عملاً تاريخياً رهاناً في كل لحظة. راهناً بامتياز التاريخ وتفاصيله واشتراطاته. هذا ما يجعلنا نقف أمام معضلة طالما تتجدد في واقعنا الراهن، وكانت متجددة على طول خط التاريخ البشري منذ ولادته. هي معضلة العلاقة بين الفضيلة والسياسة. السياسة بمعناها الواسع. بما هي مصالح وموازين قوى وعلاقات طبقية وغير طبقية.
هنالك نقلة حدثت في التاريخ البشري، قلما تمت معالجتها انطلاقاً من هذه الزاوية، هذه النقلة هي الدولة. الدولة التي لم تعد تعترف بمفهوم الفضيلة. ليس في مبناها ولا في معناها. الدولة هي قانون لا يأخذ مفهوم الفضيلة واحتكاره بعين الاعتبار. بل الطريف من ذلك أن هنالك من يقارب مفهوم الدولة انطلاقاً من قانونها، له أس أخلاقي، بالتالي هذا يتقاطع بجهة ما مع مفهوم الفضيلة، مما يعني إعطاء هوية ما للدولة، كأن تقول دولة بعثية، أو دولة إسلامية، أو دولة علمانية، أو دولة اشتراكية، أو دولة رأسمالية. في الحقيقة إن هذه التسميات هي تسميات ذات طابع سلطوي، تعود للمسيطر والمهيمن، حسب كل دولة. السؤال الذي يتبادر للذهن: هل كل المنضوين في ظل هذه الدولة هم بعثيون؟ هل هم مسلمون؟ هل هم علمانيون؟ هل هم اشتراكيون؟ هل هم رأسماليون؟ هنا نقف أمام ما يمكننا لمحه في سياقاتنا الشرق أوسطية، أمام ما يمكننا تسميته أيضاً "دولة الفضيلة". دولة الأسد ودولة الولي الفقيه، دولة جبهة النصرة ودولة داعش، أو الدولة التي يطمح بعض الإسلاميين لإقامتها.
السلطات الموجودة في بلداننا الشرق أوسطية كلها سلطات الفضيلة. أصحاب شأنها هم "الأعلون" وهم "المفضلون"، يحتكرون الفضيلة والأخلاق. كل مواطن في الشرق الأوسط يعرف جيداً جداً، أن التنعم الذي يعيش فيه رجال هذه السلطات إنما هو من فساد إلى فساد. مع ذلك نجد هذا المواطن يقبل بأن يضحك على نفسه نتيجة لخوفه، ويقرّ بهم أنهم" الأعلون". لأنه بغير ذلك سيصبح وراء الشمس. لا يمكن استثناء أية سلطة شرق أوسطية ضمن هذا المجال. كلهم أصحاب القيم الرفيعة، والمحبة لأهلها، وناسها، ورعاياها! هذا مثلا ما يفعله الجولاني في إدلب، إنه المفضل الأول. ما يفعله الأسد. انظروا لزيادة الرواتب الأخيرة منذ يومين. الدولة لا علاقة لها بزيادة الرواتب، هذه منحة من المفضل الأول في سوريا. الدولة المعاصرة والتي نتجت نتيجة دماء وتضحيات من البشرية كي تتخلص من هذه الأوابد المتوحشة، هي التي من واجبها القيام بذلك وليس شخصاً له منصب سياسي أخذه بقوة القتل والتدمير. الجولاني أيضاً يعتمد على سلاحه في نشر الفضيلة في إدلب، كأن أهل إدلب بحاجة لمن يرشدهم للفضيلة.
في الحقيقة النضال ليس من أجل الوصول إلى الدولة. بل من أجل الوصول للحرية، حرية المعتقد والرأي والانتخاب. الدولة وسيلة لحماية هؤلاء جميعاً. لهذا من بداهات السيطرة لدى السلطات المنتفخة فساداً أن تصور نفسها صاحبة الفضل والفضيلة، وتحمي هذا التصور بقوة الجلاد. سلاح وأقبية سجون ومجازر أحياناً. الطرفة الأخيرة في الأمر هي انتقال العدوى لجماعات المعارضة، التي أيضاً تصور نفسها من موقع هذه الفضيلة. المختلفون معهم ليسوا مثلهم، بل لأنهم لا يملكون نسق الفضيلة وما يقتضيه. إنهم بلا أخلاق. لا أحد جدير بأن يتمنن على البشر، خاصة إذا كان صاحب سلطة قمعية، أو صاحب ثقافة واسعة، مؤمناً أم ملحداً، مسلماً أم غير مسلم.
الدولة التي تحمي حرية الإنسان هي حق مهما كان دينه أو معتقده، ليست فضيلة وليست منحة من أحد. ليس من حق أي سلطة فرض هوية ما أية هوية على هذه الدولة، بحكم الفضيلة، بل بحكم الحرية، الدولة هي الضمان لحرية الإنسان حتى اللحظة. في بلداننا لا يوجد دولة، بل يوجد سلطات غاشمة فقط.
ليفانت - غسان المفلح
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!