الوضع المظلم
الخميس ١٨ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
سياسات الانفتاح الاقتصادي
مصعب قاسم عزاوي

سياسات الانفتاح الاقتصادي التي لا بد من اتباعها في نسق الخضوع لمفاعيل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ليست جديدة على الواقع الاقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما هي تعليب جديد لما كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يقومان به في أرجاء المعمورة، وخاصة في الدول النامية المتعثرة اقتصادياً لأسباب عضوية.

أُسُّهَا يكمن في أكل مستعمريها السابقين لاقتصادات وموارد تلك الدول «لحماً وتركها عظماً هشيمياً حطامياً وعصفاً مأكولاً» من غير بنية تحتية، أو حتى خبرات إدارية حقيقية عن كيفية إدارة مجتمعات تلك الاقتصادات، سوى ذلك المتعلق بمهارات الفساد والإفساد والقمع للحفاظ على مصالح المستعمرين السابقين لتلك الاقتصادات الذين لم يرحلوا إلا شكلياً، بعد ترك وكلائهم من «النواطير المحليين» المفوضين بتسيير مصالحهم، والحفاظ على تدفق صبيب عملية النهب التاريخية لمجتمعات دول الجنوب التي بدأت منذ القرن الخامس عشر مع صعود الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، واشرئباب تجارتهم بالرقيق من البشر المظلومين المستأصلين من أرضهم، والذين تم تحويلهم إلى قوة عمل مجانية لخدمة «ظُلَّامِهِم» وزيادة ثرواتهم، وتم استخدام الكثير من عديدهم المظلوم في زراعة الأفيون لصالح مستعبديهم، ليغزوا به جل أرجاء الأرضين، ويحصدوا ثروات هائلة من المتاجرة به مثلت عماد التراكم الاقتصادي للثروة في دول الشمال الغني راهناً، و هو ما يتم التعتيم المعرفي و الإعلامي عليه دائماً و أبداً.

وللتبئير فإن مثلث الأهداف الكبرى لاتفاقيات تحرير التجارة العالمية، ووصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من قبلهما تتركز حول إلغاء كل الضوابط الحمائية على الإنتاج المحلي في اقتصادات الدول النامية بحيث تصبح تلك الاقتصادات مصدراً لا مصاريع لأبوابه المفتوحة دائماً لشفط الموارد الأولية شبه المجانية منها، ومنهلاً لقوة العمل الرخيصة التي لا نصير لها، وسوقاً مفتوحة على أعنتها لتصريف النتاج الصناعي لمجتمعات دول الشمال الغني. والناتج الفعلي لمثل ذلك النموذج الاقتصادي البائس لا بد أن يتمثل في زيادة تدفق الثروة على حيز صغير في المجتمعات النامية يتمحور حول أولئك النواطير المفوضين بإدارة عملية «استمرار النهب التاريخي» الذي لم ينقطع لتلك المجتمعات، وزيادة في معدلات الإفقار والتهميش للسواد الأعظم من أبناء تلك المجتمعات النامية، والذين لا بد لهم وفق مفاعيل تلك الاتفاقيات «العولمية» من الخضوع لاشتراطات «العولمة البربرية المتوحشة» بالشكل المنصوص عليه في تلك الاتفاقيات، والتي لا بد أن تُحَوِّل الطبقات العاملة في المجتمعات النامية، إلى متنافسين فيما بينهم على الحظيان باستثمار هذه الشركة العابرة للقارات أو تلك، عبر «إغرائها الانبطاحي» بتسهيلات استثمارية متعددة على رأسها عرض أخفض الأجور لاستئجار «قوة عمل» جحافل المظلومين المقهورين في مجتمعاتهم، والذين ليس لهم من خيار سوى القبول بأقل الأجور للعمل بأي ظروف بائسة، بعد أن أدت السياسات الانفتاحية إلى اندثار الرهط الأعظم من الصناعات الإنتاجية المحلية «الزراعية والصناعية» التي لا تستطيع منافسة الإنتاج الكتلي المنظم والمؤتمت لدول الشمال الغني، كما تجلى في انهيار زراعة الطماطم في المكسيك مثلاً خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، والتي لم تعد قادرة على منافسة الوارد من الولايات المتحدة من مزارع الطماطم المدعومة من حكومة الولايات المتحدة بمخالفة صريحة لاشتراطات تحرير التجارة العالمية، إذ إن تلك الاشتراطات تسري فقط على الموقعين عليها من مجتمعات المفقرين المنهوبين فقط، وليس مجتمعات الأثرياء الأقوياء.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى التفارق الذي يفقأ عين كل مراقب مدقق لحقيقة قدرة الشركات العابرة للقارات على اجتياز كل الحدود السياسية، والاستثمار في أي فضاء جغرافي يلائم هدف تعزيز مستويات أرباحها، بالاتكاء على قوة مفاعيل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية، وما تستتبعه من «انفتاح اقتصادي» يمكنها من نقل معاملها بين عشية وضحاها من مجتمع إلى آخر إذا لم يرقها تسهيلات الاستثمار الممنوحة لها في المجتمع الأول مقارنة بذلك الأخير. وعلى المقلب الآخر يقف الواقع المناقض لذلك التوصيف السالف، والمتمثل في انعدام قدرة أي من أفراد الطبقات العاملة الانتقال للبحث عن فرصة عمل في مجتمع آخر بأي درجة من الحرية التي تتمتع بها الشركات العابرة للقارات، هذا عدا عن انعدام أي ممكنات للتنسيق بين اتحادات ونقابات العمال بشكل عابر للحدود يمكنها من تشكيل جبهة تفاوضية متينة تدافع عن حقوق العمال في وجه سعار انتهاك حقوقهم الصارخ الذي تقوم به الشركات العابرة للقارات، إذ إن الحقيقة المزرية هي انعدام أي وجود ذي معنى لاتحادات ونقابات عمالية فاعلة في أي من المجتمعات المحلية في دول العالم النامي، وهو ما يجعل من «الطموحات المشروعة» بتنسيق تلك النقابات والاتحادات على المستوى الكوني لمواجهة عسف وجور الشركات العابرة للقارات ضرباً من «التفكير الطوباوي الحالم» الذي لا بد أن يبدو بعيد المنال عن كل العمال المقهورين في أرجاء الأرضين، وخاصة في مجتمعات المنهوبين المفقرين في دول الجنوب، على الرغم من أنه الترياق شبه الأوحد القادر على مواجهة شطط وتفلت غيلان العولمة وشركاتها العابرة للقارات من كل عقال أخلاقي أو قانوني.

وعلى المستوى الاجتماعي فإن الناتج التراكمي لاتفاقيات تحرير التجارة العالمية في غير موضع من دول الجنوب المفقر المنهوب تمثل في «طوفان تدميري» من تهشيم البنى الاجتماعية التعاضدية التقليدية، واستبدالها ببنى جديدة من وليدات نظم «اقتصاد السوق الحر»، والتي تقوم على إعلاء الذاتية والفردانية والانعزالية، والنظر إلى المجتمع بأنه غابة لا مكان فيها إلا للفاتك الجسور الذي يمكن تعريفه بلغة واقعية معاصرة بأنه «عديم الأخلاق والقيم» التي كانت سائدة في مجتمعه قبل تغول أنماط الليبرالية المستحدثة بشكلها البربري العولمي المتوحش عليه، والتي تشكل عماد والجوهر المحرك لاتفاقيات تحرير التجارة العالمية، والتي تسري كلها في هدي المقولة «الوعظية الشيطانية الكبرى» التي اختطتها «عرابة اقتصاد السوق الوحشي» رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر مشخصاً بقولها «لا وجود لأي شيء اسمه مجتمع، وإنما فقط أفراد أحرار»، تاركة للمتلقي اللبيب الفطن تخيل الشكل «المسخي» لأولئك الأفراد الذين يعيش كل منهم كما لو أنه جزيرة معزولة عن محيطه الاجتماعي والبيئي والحيوي، همه الأوحد «تعزيز قوته الشرائية بهدف تعزيز ما يراكمه استهلاكياً»، وسوى ذلك فليكن من بعده «الطوفان»، أو حتى «نهاية العالم».

وذلك الواقع البائس الذي يفصح عن وجهه الدميم بأشكال وتلاوين مختلفة تتفاوت بين مجتمعات الدول المتقدمة وتلك النامية لا يغيب عنها جائحة الاكتئاب الجمعي، والتي تتمثل في بريطانيا نفسها بأن أكثر من نصف الشعب من البالغين يتعاطون أدوية علاجية لتسكين معاناته المزمنة من «القلق والاكتئاب»، بالتوازي مع الحالة الهذيانية من استفحال الجريمة في كل أصقاع المعمورة بعد أن تركت مفاعيل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية واقتصاد السوق الوحشي العولمي البشر يحتضرون وهم يُهصرون بين مطارقها وسنادينها التي لم تبق لهم من مصدر ميسر للبقاء على قيد الحياة، سوى التفكر بأبسط وسائل البقاء على قيد الحياة في «المجتمع الغابة» الذي ليس فيه نصير لمن لا يستطيع اجتراح بقائه بمخالبه وأنيابه، والتي كان أكثر تجلياتها حضوراً على مر التاريخ سيرة فتك قابيل بأخيه هابيل، والذي قد يكون أفقر وأكثر معاناة ومرضاً وإنهاكاً منه في حياته اليومية؛ بالتوازي مع استفحال ظواهر الإدمان على كل أشكال المخدرات التي أصبحت تمثل «الملاذ الجهنمي» الوحيد لهروب البشر المعذبين من واقعهم البائس المضني، مع معرفتهم المسبقة بأن ذلك الطريق هو أقصر الطرق للاندثار من حيواتهم الدنيا التي لم يعد فيها ما يدفعهم للبقاء فيها بعد أن امتص رحيقها «أباطرة الشركات العابرة للقارات» و«الاستثمار العولمي»، بشكل مهول يلخصه تقرير مؤسسة أوكسفام الخيرية الأخير عن التقاطب الكوني في معدلات الثروة، والذي مفاده بأن 26 شخصاً من العالم المتقدم، يمتلكون ثروات أكثر من كل الثروات التي يملكها نصف البشر الذين يسكنون كوكب الأرض، وأن الشركات العابرة للقارات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لإدارتها تمتلك أكثر من نصف الثروة الكلية المملوكة من أفراد أو شخصيات اعتبارية، سواء كانت شركات أو حتى دولاً على المستوى الكوني.

ليفانت - مصعب قاسم عزاوي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!