الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
سوريا: مملكة الرعب
هنادي زحلوط


“أصدقائي، سامحوني وبلا إحراج، بحزن شديد، لقد توقفت عن إبداء رأيي في قضايا بلادي السياسية. لكم مودتي.. نصر داهود سعيد”.


بهذه الكلمات، أعلن السيد نصر داهود سعيد لأصدقائه، عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، أنّه لن يعبّر بعد اليوم عن آرائه السياسية.


كان هذا الإعلان صادماً بالنسبة لي، وحزيناً، فالأستاذ نصر هو معتقل سياسي سابق، أمضى ثلاثة عشر عاماً في سجون الأسد، دفع هذا ثمناً لمواقفه السياسية، حبساً وتعذيباً وابتعاداً عن عائلته وأطفاله الذين يحبهم أيّما حب.


الرجل الستيني الذي ما زال يسكن قرية “ياسنس”، القريبة من ضيعتنا في قرى اللاذقية، لم أره يوماً مستسلماً أو يائساً، بل إنّ جميع من يعرفه ينقل عنه اجتهاده في عمله، كصاحب مطعم صغير، وحبّه للأرض، حيث يقدّم مثالاً عن كيفية الاكتفاء الذاتي للعائلة بزراعة أرض صغيرة، بالإضافة إلى أنّه والد استثنائي لابنته شيرين، وجدّ جميل لأحفاده.


عادت بي الذاكرة إلى العام 2010، حين كان ينتابني شعور بفقدان الأمل بالخوف الضاغط، بأنّ الحيطان فعلياً لها آذان، وبأنّ سوريا ستبقى أبداً “مملكة الخوف”.


وأسأل نفسي، إن كان ثمة قد تغير شيء منذ ذلك الزمن، منذ انتفض السوريون وخرجوا بالملايين معلنين في مدنهم وقراهم رغبتهم في تغيير النظام القائم في بلادهم، والغالب أنّه لم يتغير شيء، سوى قائمة طويلة من الضحايا والمجازر، مقتلة جماعية فردية، كانت عاقبة إبداء الرأي في سوريا مكلفة جداً، لكل شخص وعائلة، ولسوريا الوطن أيضاً.


في قمة الهرم، لم يتغير شيء، تحالف النظام مع دول وعصابات أملاً في انتزاع سيادة غير شرعية، وفي المقابل، سعت دول وعصابات على استباحة السوريين باسم الثورة، التي بقي يحمل قيمها عدد لا بأس به منهم، لكن هؤلاء رغم قوة موقفهم بقوا الحلقة الأضعف، وبقي إبداء الرأي جريمة.


طورت الأجهزة الأمنية السورية من ممارساتها، فأصبح أصغر طفل في البلاد يعرف ما يمكن أن ينتظره في حال كتب كلمة أو عبر عن رأي لا يوافق تماماً رأي السلطة الحاكمة.


جوع، وعطش، ونقص مواد طبية، وبيع لمقدرات البلاد، ورغم أنّ الناس تموت جوعاً حرفياً، وتموت رعباً من المرض، إلا أنّ هاجس السلطة في سوريا بقي كيف يقمعون الناس، وليس كيف يؤمنون لهم الخبز والدواء.


أثبتت السلطة الحاكمة في سوريا، أنّ عمودها الفقري هو الرعب، وأنّ إرهاب الناس هو أهم عناصر وجودها، وبينما يرزح حوالي 83 بالمائة من السوريين تحت خط الفقر، فإنّ السلطة مشغولة بقمعهم وغسل أدمغتهم، لا بتحسين أوضاعهم ومنحهم حقوقهم ومسح دموعهم.


وبينما قد تقبل السلطة بإجراءات انتقال سلطة وهمية، وقد تغيّر لونها لتبقى في السلطة، فإنّها لن تسمح بإطلاق سراح المعتقلين الذين تقدّر المنظمات الدولية عددهم بمئات الآلاف، وما تزال صور قيصر (55 ألفاً) شاهدة على جحيم السجون السورية، حيث غاب أحباؤنا وحيث يختبئ أملنا برؤيتهم أحياء حتى آخر لحظة من حياتنا.


لم أرَ السيد نصر داهود سعيد، ولم أقابله في حياتي، لكني أعلم من أصدقاء الدرب أنّه قد تم تعذيبه لثنيه عن وقوفه ضد الشحن الطائفي عام 1980، وبخاصة بعد مقتل الشيخ يوسف الصارم، الذي أريد له أن يكون فزاعة في وجه الطائفة، وخيطاً من خيوط إحكام الخناق على المجتمع السوري ونزع السياسة منه، عبر تخويف الجميع من الجميع، وتحويل البلاد إلى مملكة رعب.


كُسر ظهره وأعادوه لساحة قريته جسداً لا يقوى على الحراك، وتم اعتقاله لثلاثة عشر عاماً بعد هذه الحادثة بسنوات سبع، لكنه أدرك الحقيقة التي لم تدركها السلطة السورية المتوحشة الجاهلة بعد: “خلصت لقاعدة تقول التعذيب لا يغير العقول، والحوار هو الطريق الصحيح لمشاكلنا”.


ليفانت – هنادي زحلوط 








 




النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!