-
سراب فيينا.. نحن بعيدون عن الاتفاق بمقدار قربنا منه
التأمت الجولة الثامنة للمفاوضات النووية في العاصمة النمساوية، فيينا، مجدداً، بعد عودة الوفود المشاركة في المفاوضات من عواصمها، التي غادرت إليها بحجة التشاور، ومع عودة الوفود عادت نبرة التفاؤل وجرعة الأمل تعلو الساحتين، السياسية والإعلامية، بقرب التوصّل إلى اتفاق يلجم الطموحات النووية الإيرانية ويضبطها في المسار السلمي، وفي المقابل يرفع عن طهران سيف العقوبات التي زادتها حدة سياسة الضغوط القصوى التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بعد انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018، وهي ضغوط بقيت سارية المفعول رغم تغير الإدارة التي فرضتها.
بعيداً عن الآمال المرتفعة والتصريحات الوردية عن تقدم محرز خلال المفاوضات الجارية في فيينا، إلا أن بقاءها ضمن حيز المفاوضات غير المباشرة يُخّفض تلك الآمال ويعزز الانطباع بعدم ردم الهوة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، الطرفان الرئيسان في المفاوضات، بالرغم من الضوء الخامنئي الأخضر الذي عبر عنه وزير الخارجية الإيرانية "حسين أمير عبد اللهيان" من خلال تصريحه عن قبول ضمني بالمفاوضات المباشرة حين تدعو الضرورة لذلك، وهنا لابد من الأخذ بالاعتبار تغليب الدول الوسيطة لمصالحها الذاتية والسعي للحصول على مكاسب جانبية من هذا الطرف أو ذاك خلال عملية الوساطة في المفاوضات غير المباشرة على حساب النتائج المأمولة للعملية التفاوضية.
وفيما ينتظر الجميع صعود الدخان الأبيض من أروقة فندقي "كوبورغ" و"ماريوت" في العاصمة النمساوية فيينا، إلا أن مؤشراته كان من الواجب خروجها من مكان آخر، كالعاصمة العراقية بغداد، التي تعيش مخاض تشكيل حكومتها، باعتبارها أبرز ساحات التنافس والصراع بين واشنطن وطهران، لذا فإن تعثر تشكيل الحكومة العراقية يُعتبر أحد مؤشرات الفجوة الواسعة التي تحكم الطرفين الرئيسين في فيينا.
تجاهل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" الرغبة الإيرانية القديمة المكررة بتوقيع اتفاق استراتيجي بين البلدين أسوة بالاتفاق الإيراني الصيني، وهو ما كانت تعوّل عليه طهران خلال زيارة الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" إلى موسكو، مطلع يناير/ كانون الثاني الفائت، وهنا لا بد من التنويه لطريقة موسكو في تعاطيها مع العقوبات المفروضة على طهران، حيث التزمت موسكو بتلك العقوبات، سواءً كانت من الموافقين أو الرافضين لها على عكس بكين، التي ترى في العقوبات على طهران فرصة لتأمين من احتياجاتها من النفط بأسعار منخفضة، إضافة لمقاصد بكين السياسية للخروج من عباءة الأحادية للنظام العالمي أو معارضتها من خلال خطوات تكتيكية هادئة، ومنها عدم احترامها للعقوبات الأمريكية.
وبالعودة لامتناع موسكو عن توقيع الاتفاق المأمول إيرانياً خلال زيارة رئيسي لموسكو، والتي يمكن تفسيرها بتضاؤل الفرص أمام إحياء الاتفاق النووي وفق المنظور الروسي، مصحوبة بالرغبة البوتينية بإبقاء طهران تحت المظلة الروسية وبعيدة عن المحور الغربي خلال مراحل الصراع المفتوحة بين روسيا ودول الناتو، وقد أشار إلى ذلك وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، في تسريب صوتي تم نشره في الصيف الفائت عن مساعٍ روسية لعرقلة التوصل لاتفاق عام 2015.
مع سخونة الأوضاع التي تشهدها الحدود الأوكرانية، زادت حرارة التوصّل لاتفاق لدى كل من واشنطن وطهران، نظراً لما يعنيه تدحرج الأوضاع على الحدود الأوكرانية باتجاه عمليات عسكرية أو غزو روسي لأوكرانيا، ما يؤدي بدوره لتسخين حدة الصراع الغربي مع موسكو وتشظي مؤثراته على مفاوضات فيينا، إلا أن رغبة الطرفين بالتوصل لاتفاق محكومة بعوامل خارجية وعوامل داخلية، والأخيرة تحجّم بشدة هذه الرغبة، فعلى صعيد الساحة الإيرانية ليس بإمكان الحكومة الحالية الموافقة على اتفاق أقل من اتفاق عام 2015، وإلا فإنها ستُسقط عن نفسها آخر "أوراق التوت" التي تداري بها سوأتها في مواجهة التيار الإصلاحي والمجتمع الإيراني عموماً، كذلك فإن الساحة السياسية الأمريكية وحالة الشد والجذب بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تجاه العديد من القضايا، ومنها الاتفاق النووي المرغوب لدى الإدارة الحالية، وما تتلقاه هذه الإدارة من رسائل مقدمة من قبل أعضاء الكونغرس لحثّ الرئيس جو بايدن على التشدد ونبذ التساهل الذي تظهره إدارته في المفاوضات النووية، مع الأخذ بعين الاعتبار وقوف عدد من الأعضاء الديمقراطيين مواقف أكثر تشدداً من زملائهم الجمهوريين تجاه النووي الإيراني، ومنهم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، بوب مينينديز.
لا يبدو أن الحكومتين، "واشنطن وطهران"، قادرتان على تجاوز المطبّات أو المنحدرات الداخلية في كلا البلدين، فحكومة طهران ليست قادرة على الرجوع خطوة إلى الوراء، ما يوحي بضعفها أمام الشارع الإيراني المتصاعد بسخونته، كذلك ليس بوسع الإدارة الأمريكية الحالية تجاوز هاجس الانتخابات النصفية لمجلسي "النواب والشيوخ" وتأثير أي اتفاق هزيل مع طهران على هذه الانتخابات، فعلى الرغم من الضغوط التي يمارسها اللوبي الإيراني على هذه الإدارة مدعوماً بلوبي الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية الطامحة للاستثمار في السوق الإيرانية، إلا أن المفاضلة بين منافع تجنيها الشركات والمصارف المالية وبين خسارة الحزب للانتخابات غالباً ما تميل المفاضلة بينهما للمصلحة الحزبية.
ما يزال ظلّ الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" قابعاً في ثنايا البيت الأبيض من خلال الشبكة العنكبوتية للعقوبات التي قام بفرضها على طهران بطريقة صعبة التفكيك، وعلى سبيل المثال، فإن العقوبات التي طالت البنك المركزي الإيراني لم تدرج تحت البند النووي، وعليه فإن أي رفع جزئي للعقوبات، تؤكد عليه واشنطن وترفضه طهران سيقع على العقوبات المتعلقة بالمشروع النووي بالأغلب، وهو ما يعني عدم رفعها عملياً، لذلك تؤكد طهران على وضع آلية وزمن للتأكد من رفع العقوبات.
وفي ظل هذه المعطيات وتشعباتها تبدو فرص التوصل لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 أبعد مما تحاول وسائل الإعلام تصديره لجمهورها، لا سيما مع إدارة أمريكية وريثة للإدارة التي وقّعت اتفاق 2015، والتي علمتها أخطاء الماضي وهواجس نابعة من تجاذبات سياسية داخلية قد تدفع سفنها خارج الميناء، ألا تعول على تغيير السلوك الإيراني نتيجة الانفتاح على النظام العالمي بموجب اتفاق معها، بل لا بد من تضمين الاتفاق المأمول لبند خاص بالتفاوض المستقبلي حول البرنامج الصاروخي والسلوك الإقليمي المزعزع للاستقرار، وهو ما ترفضه طهران مدعومة من قبل موسكو وبكين، الراغبتين في إطالة الاستثمار في السلوك الإيراني المشاكس للولايات المتحدة خلال صراعهما مع واشنطن للوصول لعالم متعدد الأقطاب.
ليفانت – عمار جلو
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!