-
ساحة الكرامة في السويداء.. ساحة كل السوريين.
على شاشة الهاتف الصغيرة وعلى بعد الالاف من الكيلومترات عن قلب الحدث، أشارك مع بعض السوريين المنفيين والمتواجدين حولي وفي دول اللجوء مقاطع الفيديو التي تصلنا تباعًا من مدينتي ومسقط رأسي السويداء عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا اليوم، للمرة الخمسين، أستمع إلى أصوات الأحرار والحرائر في محافظتي القابعة في الخاصرة الجنوبية لسورية، وهي ترتفع منذ أيام بالهتافات والأهازيج التي رددها السوريين على مدار الاثني عشرَ عامًاً " حرية للأبد غصب عنك يا أسد".
كانت بداية هذه الاحتجاجات مع دعوة للإضراب العام بعد إعلان النظام السوري حزمة من الإجراءات الاقتصادية الفاشلة في محاولة للتصدي للغضب الشعبي الناتج عن الأوضاع الاقتصادية المتردية، ليكتمل هذا الإصلاح الاقتصادي المزعوم برفع الدعم عن بعض من المواد الأساسية. تأتي هذه الإجراءات في الوقت الذي يرزخ فيه أكثر من 90 % من سكان البلاد تحت خط الفقر، بحسب التقارير الأخيرة للأمم المتحدة.
دعوات الإضراب هذه، سرعان ما تطورت لاحتجاجات شعبية واسعة امتدت على أكثر من 40 نقطة تظاهر في كافة مدن وبلدات محافظة السويداء، حيث جاءت هذه الاحتجاجات محملة بخطاب سياسي وثوري ومعيشي في الوقت نفسه. يحمّل المحتجون النظام السوري ورأسه بشار الأسد المسؤولية الكاملة عن هذا التدهور المعيشي غير المسبوق، وفي الوقت نفسه، يؤكدون على أنه لا يمكن بناء دولة حرة وديمقراطية يعيش فيها كافة السوريين بكرامة دون زوال طاغية دمشق، بحسب وصف أحد المحتجين المشاركين.
بالنسبة للكثير من المشاركين، ما يحصل في السويداء اليوم لا يمكن إلا أن يكون امتدادا لانتفاضة الحرية والكرامة في 2011،التي لم تغب عنها السويداء يوما، حتى لو لم تتجل المشاركة بمظاهرات مستمرة كما كان هو الحال في العديد من المحافظات. غالبية سكان المدينة، ومع تشعب النزاع السوري، حاولوا التزام الحياد بسبب الاستقطاب الواضح في الشارع السوري من جهة، والخوف من بطش النظام الوحشي الذي شهدوه في باقي المحافظات من جهة أخرى. فاتجه العديد من النشطاء المحليين والأهالي للتركيز على تقديم الأعمال الإغاثية والاستجابة الإنسانية، حيث أن السويداء قد استقبلت الآلاف من النازحين المهجرين داخليا من باقي المناطق السورية، وتم اعتبارهم ضيوفاً كراماً على المحافظة، تماشيا مع عادات وتقاليد بني معروف.
ومع ذلك، لا يمكن بحال من الأحوال اغفال تصاعد الحراك الثوري في السويداء رغم التضييق الامني المشدد منذ الأيام الأولى إبان انطلاق الانتفاضة السورية. إذ سجلت السويداء اول اعتصام في ساحة سلطان باشا الأطرش تضامنا مع أطفال درعا المعتقلين في سجون النظام، وجاء ذلك بالتزامن مع بيان أطلقه محامو السويداء الاحرار في اذار 2011 وتبنته جميع الجهات الثورية، طالبوا فيه " برفع الطوق الأمني عن سورية وإطلاق الحريات والافراج عن المعتقلين وتطبيق سيادة القانون". وفي وقت لاحق، عارض أهالي السويداء بكافة أطيافهم التحاق شبابهم بالخدمة العسكرية، رافضين كافة الضغوط التي مارسها النظام السوري من أجل الحاق 40 ألف شاب من أبناء جبل العرب بجيش النظام.
وهنا كان بروز حركة رجال الكرامة الناشطة في السويداء منذ عام 2013 لملئ الفراغ الأمني الذي ولدته سياسة النظام الممنهجة لترك المحافظة في حالة من الفلتان الأمني، ولحماية الشباب الرافضين للالتحاق بالخدمة العسكرية " فدم السوري على السوري حرام". وهذا دفع بالنظام السوري لاحقا الى تهديد امن المحافظة عدة مرات، أبرزها في العام 2018، حينما سهل دخول داعش وارتكابها لأعمال القتل والخطف في بعض القرى الحدودية للمحافظة. كما عمل على تمكين سيطرة الميليشيات المسلحة وتجار المخدرات من العيث فسادا دون حسيب أو رقيب، كل ذلك جاء لتلقين أهالي السويداء درسا لعدم انصياعهم لطلبات نظام الأسد.
لافتات وهتافات السويداء التي يحملها المحتجون المتواجدون بالآلاف في ساحة الكرامة اليوم، وفي باقي المدن والقرى المشاركة، تؤكد على الحرية ووحدة الأرض السورية. وعلى الرغم من أن الرموز والأعلام الدينية لطائفة الموحدين الدروز حاضرة للعيان، الا ان المحتجين يعتبرونها، وكما ورد على لسان شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري" راية جامعة، وهي الراية ذاتها التي انطلقت وانضوت تحتها الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش".
هتافات المحتجين تؤكد بإصرار على الهوية الوطنية الجامعة، وعلى تحية كافة المدن السورية بدون استثناء. والوقفات تضامنية التي شهدتها كل من حلب وإدلب ودرعا ودير الزور والرقة وغيرها من المناطق، إضافة الى العديد من البيانات التي أطلقتها أحزاب وجهات سياسية، تؤكد أن رسالة المتظاهرين في السويداء قد وصلت الى جميع السوريين الأحرار، وهم صف واحد في المطالبة بالحرية والكرامة وعلى كامل الأرض السورية.
الحراك الثوري اليوم الذي انطلق من السويداء ودرعا وامتد الى كافة المحافظات السورية له تداعياته، وهذا ليس بالجديد او غير المتوقع، فهو يعري دعاية النظام ومزاعمه التي يرددها منذ عام 2011 حول دعم الأقليات له، وهو تأكيد على أن الشعب السوري واحد، رغم محاولة سلطات النظام وباقي سلطات الامر الواقع المستمرة للتفريق وزرع الشقاق. الحراك الذي نشهده اليوم، هو حراك تقف فيه النساء الى جانب الرجال، وتصدح أهازيج الثورة الأولى للتأكيد على وحدة البلاد، حراك مدعوم وبشكل واضح وللمرة الأولى من رجال دين طائفة الموحدين الدروز وبمشاركة العشائر التي لطالما عمل النظام على زرع الشقاق بينهما، وتظهر فيه الجهات الروحية في المحافظة مواقف داعمة للمطالب الشعبية في الشارع دون خوفا من بطش القبضة العسكرية.
من منزلي ذاته البعيد الاف الكيلومترات عن أهلي وعزوتي وأبناء مدينتي ووطني، أجلس لأستمع لهذه الشعارات التي لطالما أطربتني لعقد من الزمن" واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، " حرية للأبد غصب عنك يا أسد"، " الشعب يريد اسقاط النظام"، بينما يعرض التلفاز الجلسة الخاصة بمجلس الامن للإحاطة بالشأن السوري. استمع لتأكيدات الدول " الصديقة" المموجة ذاتها وهي تتحدث عن دعمها للمطالب المحقة للشارع السوري المنتفض في السويداء وباقي المناطق، وتطالب النظام السوري بعدم قمع هذه الاحتجاجات. اتابع هذه الاحتجاجات، وأنا أعلم أن أيا من هذه الدول لن تحرك ساكنا إذا وقع المحظور، وتجاوز النظام السوري خطوطهم الحمراء كلها دفعة واحدة، كما فعلها أكثر من مرة. لذا أشيح بنظري بعيدا عن ترهاتهم، وعن منطق القوة والمصالح الدولية المتشعبة والإرادة الدولية، لأتابع استمرار توسع المظاهرات الى الأتارب وحلب والرقة ودير الزور ومناطق الإدارة الذاتية، واتوجه للمعتصمين في ساحة الكرامة في السويداء، ساحة السوريين جميعا.. وأقول: لعل ما نرجوه سوف يكون.. ولا بد أن يستجيب القدر.
ليفانت: غنى الشومري
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!