-
روسيا بين السلاح والسياسة.. ما بدائل الغرب لمواجهة "الستار الحديدي" الجديد؟
ثمّة حركة عنيفة تجري أسفل طبقة التاريخ بتكويناتها بينما تتفاعل قشرتها الخارجية مع البنى الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فتصطدم المصالح والرؤى التي تحتاج إلى إعادة نظام وفلسفة إدارة تنتظم معها الإرادة العالمية من جديد. وتبعث وتيرة الأحداث، السياسية والميدانية، في أوكرانيا، مع تداعياتها المتنامية، بانطباعات جمّة، كما تضغط على ذهنك بتصور مباشر مفاده أننا بصدد تحولات على مستوى الجغرافيا السياسية.
هذا التحوّل الذي يبدو، بحجم تأثيره على جدار التاريخ، وكأنّه نتيجة سيرورة تاريخية لعقد أو عقدين، قد فرض ذاته، أو بالأحرى معطياته في حيّز زمني لا يتجاوز أربعة عشر يوماً. ذلك ما يمكن تسميته بكسر النموذج. النموذج، بمعنى القوانين التي تحكم حركة التاريخ وتفاعلات السياسة وجدل المصالح وبراغماتية الاصطفافات والتحالفات بين القوى وبعضها (وكذا التناقضات بينهم). غير أنه وبمجرد سقوط نظام على نحو مباغت بما يؤشر بوجود خريطة جديدة تجد أن "ستاراً حديدياً" جديداً يسقط في مختلف أنحاء أوروبا.
ومثّل "الستار الحديدي" الأصلي الحدود السياسية التي شطرت أوروبا إلى نصفين منذ نهايات الحرب العالمية الثانية في عام 1945 حتى نهاية الحرب الباردة، في مطلع التسعينات من القرن الماضي. وحمل الجدار الذي ظلّ يحمل ذاكرة الاستقطاب العالمي المحتدم في تلك الفترة بين عالمي الشرق والغرب، وكذا صراع القيم المحمومة الأيدولوجية الشيوعية والرأسمالية، رمزية هائلة لحالة الانقسام. بيد أن سقوط الجدار وهدم أثره وتلاشي وجوده رافقه عنوان مغاير لفترة نهاية الحرب الباردة، وقد عدّ أحدهم ذلك بـ"نهاية التاريخ". تنامي العولمة حفر مساراً جديداً لليبرالية على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى النظري، وقد نتج عن ذلك فتح الحدود أمام البضائع والرساميل. وهذه الدينامية الجديدة شكلت تطوراً لافتاً في البنى الاقتصادية والسياسية لمختلف الدول، بالإضافة لانخراطها في النظام العالمي بقيمه الجديدة وانفتاحه الإنساني الأشمل، لكن بقيت كوريا الشمالية في عزلة تامة.
ورغم مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على الحرب الباردة، إلا أنّ مغامرة موسكو العسكرية في كييف، والتي تعدّ من أخطر التهديدات الأمنية لأوروبا بنفس درجة التهديد النووي، تضع روسيا أمام تهديد بعزلتها العالمية وعودة الانقسام والتوتر. وقد بدأت مؤشرات ذلك عندما أعلن صندوق الثروة السيادية في النرويج، مؤخراً، عن مباشرته عملية الخروج من روسيا، ثم توقف شركات عالمية عن معاملاتها مع الأخيرة كذلك، من بينها "بريتش بتروليوم" فولفو" و"جاكوار لاند روفر". ويضاف لذلك أنه حتى اعتماد موسكو على النفط والغاز سوف يتأثر على نحو ليس بالقليل والهين في حال عدم حصولها على التكنولوجيا الغربية. وبينما حدث في حزيران (يونيو) من عام 2008، أن كان الدولار الواحد يعادل 23 روبلاً، فاليوم يتكرر الأمر ذاته بصورة مأساوية وهزلية، حيث يعادل الدولار الواحد مائتي روبل.
ويتكبّد الاقتصاد الروسي خسائر هائلة ومدوّية، في ظل العقوبات المتتالية، الأمر الذي اضطر البنك المركزي الروسي فرض عدة حيل استثنائية، منها وضع قيود على بيع العملات الأجنبية وكذا سحب الودائع، وبالتالي، أضحى سيناريو إفلاس موسكو قاب قوسين أو أدنى، وفق تقديرات معهد "دي آي في" الألماني للبحوث الاقتصادية. كما أنّ الاقتصاد الروسي الذي يتعرّض لـ"ضربات عنيفة" بتعبير الكرملين، تبرز لغة الأرقام الأثر الفادح ونزيف شريان روسيا الرئيس، حتى إنه من المتوقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لموسكو لـ3 بالمائة، وذلك في حال توقفت كافة الصادرات والواردات من الغاز. وفيما يتصل بالحظر التجاري على النفط، فسيؤدي ذلك إلى انخفاض وتراجع بنسبة 1.2% في الناتج الاقتصادي لروسيا. وبالتبعية، سيمتد ذلك التأثير على قطاعات اقتصادية أخرى حيوية، منها قطع غيار الآلات، حيث سيؤدي الحظر عليها لانحسار وانكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 0.5٪، وبالنسبة للحظر على المركبات وقطع غيارها تصل لنحو 0.3٪.
كما تواجه شركات الطيران الروسيّة حصاراً، شبه كامل، من الدخول للمجال الجوي الأوروبي، وحظر دخول ما يقرب من 30 دولة، في أعقاب غزو أوكرانيا. بينما أعلنت مايكروسوفت أنها ستتوقف عن بيع منتجاتها وخدماتها في روسيا. وقد بدأت شركة Cogent Communications، وهي شركة للبنية التحتية للإنترنت، تحمل حوالي 25 في المائة من حركة المرور العالمية على شبكة الإنترنت، في قطع العلاقات مع العملاء الروس. وحظر الكرملين موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، كي يخنق حركة المرور إلى منصّات التواصل الاجتماعي الأمريكية الأخرى. ومن الناحية الثقافية، تعرضت مشاركة روسيا في الرياضة الدولية، من كأس العالم، إلى كرة القدم إلى الألعاب البارالمبية الشتوية، للدمار والشلل التام، قبل أن يتلقوا حظراً رسمياً من منظمي هذه الأحداث العالمية، ورفض خصومهم المحتملين بالفعل لعبها.
ويبقى السؤال الرئيس والمركزي حول الإمكانية الأوروبية من إيجاد بديل لاعتمادها الحالي على الغاز الروسي. فروسيا هي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم وتورد حوالي 40٪ من الغاز في أوروبا. وقد دعت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، الدول الأعضاء إلى تنويع إمداداتها من الطاقة، إذ إن إزالة نفسها لمثل هذه التبعية بسرعة يعد بمثابة تحدٍّ كبير يمكن أن يشهد قيام الدول الأوروبية بمراجعة نهجها تجاه الغاز الصخري والطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة بشكل أساسي. وبدون تغيير النهج، فإنّ محاولة أوروبا عزل روسيا اقتصادياً سوف تتخلله فجوات وثغرات عديدة.
وبالمحصلة، فإن أصعب جوانب هذا الستار الحديدي الجديد الذي يمكن التنبؤ به يعزى إلى تعقيدات الجوانب الجغرافية الأمنية لكيفية تقسيم الكتلتين. وبطبيعة الحال، يكمن جوهر هذا الغموض في الأحداث التي لم تجرِ بعد في أوكرانيا، وما هي رؤية روسيا للبلاد إذا ما أرادت أن تكون قادرة على تشكيل الأحداث وفقاً لإرادتها؟ وهل سيكون بمقدور روسيا احتلال البلاد بأكملها؟ وما هي مآلات تلك الصفيحة التكتونية (الجيوسياسية) الجديدة التي ستضع نقطة النهاية على غلاف السياسة والتاريخ؟
ليفانت - شيار خليل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!