-
رؤساء سورية وطنيون أم موظفون؟ حسني الزعيم فاتحة لعشرين انقلاباً
شكّل العالم الثالث جبهة صراع بين الرأسمالية الأمريكية والاتحاد السوفييتي لملء الفراغ الذي خلفه الاستعمار الأوربي وإعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم والشرق الأوسط، على وجه الخصوص، وعليه عملت أمريكا على تنصيب حكومات عسكرية موالية لها، وكانت البداية -وفقاً لغالبية الروايات- مع الرئيس السوري الحادي عشر، حسني الزعيم، عبر انقلاب 30 أذار 1949، الذي أطيح به بانقلاب 14 أب 1949 ودامت فترة حكمه قرابة الأربعة أشهر، وكان هذا الانقلاب فاتحة لعشرين انقلاباً في سوريا، إضافة إلى محاولة انقلاب رفعت الأسد في 1983، وانتهى بحصوله على خزينة الدولة، كما كان انقلاب الزعيم ملهماً لكثير من الضباط في العالم الثالث.
يقول ضابط المخابرات الأمريكي، مايلز كوبلاند، في الصفحة (73) من كتابه عصبة الأمم: (كان انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار 1949 من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر “ميد” بإنشاء علاقات صداقة منتظمة مع حسني الزعيم، الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري، ومن خلال هذه الصداقة أوحى الميجر “ميد” لحسني الزعيم بفكرة القيام بانقلاب عسكري اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كامل خطته وإثبات كافة التفصيلات المعقدة، إلا أنّ تحركاتنا لم تثر أكثر من شكوك عند الساسة السوريين، فقد كانت كلها سرية ومتقنة الوضع والتخطيط. وأثارت هذه الشكوك فيما بعد فضول رجال الصحافة الغربيين وفئات من الطلبة، فقاموا بإجراء مقابلات مع من كان لهم صلة بالموضوع، وكانت نتيجة ذلك أن اعترفوا بصحة شكوك الساسة السوريين ودقتها، بيد أنّ الانقلاب حافظَ على صبغة سورية محضة أمام أنظار العالم الخارجي).
ويقول الرئيس والسياسي السوري البارز خالد العظم: (ولا أستبعد وجود يد أجنبية سعت إلى قلب الأوضاع في سورية، ولأنّه كان من الصعب إثبات هذا الأمر بأدلة محسوسة، فإنّ تطور الحوادث السابقة واللاحقة تسمح بالشك في ذلك).
ومن الواضح أنّ الاتفاقيات المجحفة بحق السيادة والخزينة السورية التي أبرمها الزعيم، وخاصة تلك التي رفضها البرلمان سابقاً صاحب الاختصاص وفقاً لدستور 1930، أنّ هناك من دفع ودعم الانقلاب.
ومن الاتفاقيات المجحفة التي صدّق عليها الزعيم اتفاقية (التابلاين)، مرور أنابيب شركة أرامكو الأمريكية (السعودية لاحقاً) عبر الأراضي السورية إلى لبنان، ورفضها البرلمان سابقاً لضعف العائدات وطول مدة الامتياز (70 سنة).
واتفاقية أنابيب الشرق الأوسط مع شركة خطوط أنابيب الشرق الأوسط البريطانية، واتفاقية إنشاء مصفاة بحرية أو أكثر مع شركة المصافي البحرية البريطانية، بالإضافة إلى جملة اتفاقيات مع فرنسا وهي: اتفاقية التصفية، اتفاقية المطاليب، واتفاقية المدفوعات.
ولعلّ أبرزها اتفاقية الهدنة السورية الإسرائيلية التي تم التوقيع عليها بالقرب من مستعمرة ماهانايم في 20 تموز 1949، وترتب عليها انسحاب الوحدات السورية من مستعمرة مشمار هاياردن، ومثّل الجانب السوري، العقيد فوزي سلو، والمقدّم محمد ناصر، والنقيب عفيف البرزي، وصلاح الطرزي، وصدّق الزعيم على هذه الاتفاقيات كسلطة تشريعية وأبرمها كرئيس دولة.
وأقدم الزعيم على خطيئة كلفته ورئيس وزرائه محسن البرازي حياتهما، حين سلم الدكتور أنطوان سعادة، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، للحكومة اللبنانية برئاسة رياض الصلح، وأعدمته يوم 8 تموز 1949، بعد أن منحه الزعيم الأمان وأعطاه مسدسه كعربون صداقة.
الرئيس حسني الزعيم كردي الأصل من مواليد حلب عام 1894 بعد أن تلقّى تعليمه انتقل إلى الأكاديمية الحربية في إسطنبول ليصبح ضابطاً في الجيش العثماني قبل أن يلتحق بالثورة العربية الكبرى 1916، وينظضم ضابطاً إلى القوة العسكرية الفرنسية 1921.
وفي عام 1943، تم تجريده من رتبته العسكرية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات لقتاله في صفوف حكومة فيشي الموالية للنازية، وخرج من السجن بعد عامين بعفو من الرئيس شكري القوتلي، وأعاده إلى الجيش برتبة عقيد ليصبح رئيساً للمحكمة العسكرية في دير الزور، ثم مديراً لقوى الأمن بدمشق.
بعد هزيمة 1948، كان هناك سخط شعبي كبير على الساسة والمؤسسة العسكرية، فأقال الرئيس القوتلي قائد الجيش، عبد الله عطفة، وعين الزعيم قائداً للجيش، واستقالت حكومة جميل مردم بك، تبعها أعمال شغب في العاصمة، عندها قام الزعيم بنشر الجيش في دمشق دون إذن ليعلن القوتلي حالة الطوارئ.
في 16 كانون الأول 1948، شكلت حكومة برئاسة خالد العظم لم يلبِّ برنامجها طموح الجماهير رغم تبنيها للقضية الأهم “تحرير فلسطين”، ومما زاد الصراع بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية مناقشة السياسة العسكرية في مجلس النواب، الأمر الذي دفع بالزعيم مع 14 ضابطاً للتخطيط للانقلاب في 24 مارس 1949 بحضور سامي الحناوي، ووصل الخبر للقوتلي، الذي لم يحرك ساكناً حيال ذلك.
في الساعة الثانية والنصف من فجر 30 مارس، قامت وحدات عسكرية بمحاصرة القصر الجمهوري ومجلس النواب والوزارات الرئيسة، وكان السياسي السوري البارز أكرم الحوراني، مهندس الانقلابات، على مدى أكثر من عشرين عاماً (1949- 1963) يعدّ بيان الانقلاب الذي أعلن عبر إذاعة دمشق.
تم اعتقال القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم وطلب من الرئيس تقديم استقالته وفقاً للقانون الدستوري الدولي “انتقال السلطة الشرعية لا استملاكها بالقوة”، فوجّه القوتلي استقالته للشعب وصودرت أملاكه وابنه ونفي إلى مصر وحصل على تفويض من مجلس النواب، السلطة التشريعية، قبل أن يحلّه ويعتقل بعض أعضائه وألغى العمل بالدستور.
حظي خطاب الزعيم في 7 نيسان بتأييد جماهيري كبير ودعم من بعض الرموز، وفي مقدمتهم هاشم الأتاسي وميشيل عفلق وإحسان الجابري، رئيس الحزب الوطني السوري، واعترفت العراق وتركيا بالنظام الجديد ثم مصر والسعودية وأمريكا وفرنسا وكتبت صحيفة التايمز الزعيم (أنهى حكم العائلات الغنية في سوريا، وقضى على الفساد في الدولة).
ولكن هذا التأييد الشعبي سرعان ما أصبح من الماضي بعد اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، وتفرد الزعيم بالسلطة ورئاسته للدولة والحكومة واحتفاظه لنفسه بوزارتي الداخلية والدفاع، كما مارس دور السلطة التشريعية رغم محاولته اكتساب شرعية دستورية من خلال الانتخابات الرئاسية التي أجراها في 26 حزيران 1949، فاز بها “لم يرشح أحد”، وشاركت بها المرأة للمرة الأولى فكافأ الزعيم نفسه ورفع نفسه لمنصب جديد وهو المشير وحمل شارة الماريشالية.
أغلق الزعيم 59 صحيفة ومجلة في عموم سوريا، منها 34 في دمشق فقط، كما حظر الأحزاب والجمعيات السياسية، ومنع الطلاب وموظفي الحكومة من الانتماء إلى أي حزب وحظر استعمال ألقاب باشا وبك، وسجن ميشيل عفلق وزعماء حزب الشعب، ناظم القدسي ورشدي كيخيا، وأودع 2000 شيوعي سوري في سجن تدمر، كما دعم حزب البعث وأحد أبرز داعمي الانقلاب، أكرم الحوراني.
وأعاد توزيع الوحدات العسكرية في الجيش وجعل الوحدات الشركسية والكردية حاميات للمدن، بينما أرسل الوحدات العربية إلى الجبهات، وأرسل عدنان المالكي إلى فرنسا وعين أديب الشيشكلي ملحقاً عسكرياً في السعودية وسرّح عدداً لا بأس به من الضباط وشكّل فرقة من المسلمين اليوغسلاف لحمايته، الأمر الذي أثار نقمة المؤسسة العسكرية.
ويحسب للزعيم منح المرأة حق الانتخاب لأول مرة وتحديثه لنظام التدريس الجامعي، وإصداره قانون الأحوال الشخصية السوري، واستمرّ العمل به حتى 2010، بالإضافة إلى تأميم أموال الوقف العقارية التي كان يديرها رجال الدين، وقال: “أملاك الوقف لا تفيد فقراء السوريين بشيء، وكل ما في الأمر أنّها تزيد من ثراء رجال الدين بطريقة غير مشروعة”.
في التاسع من حزيران وقع اشتباك بين القوميين السوريين وحزب الكتائب في بيروت، وحملت حكومة رياض الصلح القوميين المسؤولية، فحلّت الحزب واعتقلت 700 من أعضائه، بينما هرب سعادة إلى دمشق وطلب اللجوء السياسي، رحب به الزعيم ووعده بالدعم وقدّم له مسدسه الشخصي هدية منه وعمل سعادة على تفجير ثورة مسلحة في لبنان، في الثالث من تموز، ولكن الثوار وقعوا في كمائن قيل إنّ الزعيم بلّغ عنها، وقام يوم 7 تموز بتسليم سعادة في دمشق لقائد الأمن اللبناني، فريد شهاب، ورئيس جهاز الدرك، نور الدين الرفاعي، وفي اليوم التالي عقدت محكمة عسكرية في لبنان وأعدم سعادة رمياً بالرصاص في 8 تموز.
اعتبر الشعب السوري هذه الحادثة انقلاباً على العادات والتقاليد والشيم العربية، وقالت السفارة البريطانية في دمشق إنّ الجماهير اعتبرت هذا الفعل (رسماً من أفعال الخيانة).
افتقد الزعيم للجماهيرية الكبيرة التي تمتّع بها بداية عهده، وفقد كل شيء بمرور شهرين أو ثلاثة فقط نتيجة لتصرفاته وقراراته ومعاهداته وسياسته تجاه المؤسسة العسكرية، مما دفع سامي الحناوي الصديق المقرّب جداً منه أن يقوم في 13 أغسطس بانقلاب، ضده وحاصر القصر الجمهوري ومنزل رئيس الحكومة ومقر قيادة الجيش والشرطة ليؤول الحكم لقيادة الجيش، وفي اجتماعه مع السياسيين برّر الحناوي فعلته بأنّ الزعيم بدّد ثروة الشعب وغيّب سلطة القانون وعيّن نفسه ملكاً وأنّ سياسته الخارجية غير مسؤولة.
حكم على الزعيم والبرازي بالإعدام بعد محاكمة عسكرية أمام المجلس الأعلى للحرب، وإعدم بنفس اليوم وفقاً للرواية الرسمية. وهناك رواية أخرى هي الأقرب للواقع، حيث أقدم الضابطان المسؤولان عن اعتقال الرئيس، وهم فضل الله أبو منصور وعصام مريود، على إعدامه دون العودة للقيادة. يتحدّث فضل في كتابه “أعاصير دمشق” عن اعتقاله لحسني الزعيم وتطويقه للقصر، ويقول: (ولما تمت عملية التطويق مشيت إلى باب القصر يرافقني أدهم شركسي والرقيب فايز عدوان، وقرعت الباب بقوة فلم أسمع جواباً وكررت قرع الباب ثانية وثالثة والليل ساج، والهدوء شامل، والصمت تام حتى خيّل إلى الجنود المتربصين أنّهم يسمعون نبض قلوبهم). ويروي فضل الله كيف تم إعدام الزعيم بعد أن سيق إلى مكان حتفه مباشرة من القصر وهذا ما ينفي الرواية الرسمية ويقول: (فأمسكت حسني الزعيم بيدي اليسرى ومحسن البرازي بيدي اليمنى وسرت بهما إلى المكان الذي تقرّر أن يلاقيا فيه حتفهما، هو يقع على مقربة من مقبرة كانت للفرنسيين في مكان منخفض، وقد أدرت وجهيهما صوب الشرق، صوب دمشق، وكان الجنود في موقف التأهب لإطلاق النار، أوقفتهما جنباً إلى جنب، وتراجعت مفسحاً للجنود مجال التنفيذ، فإذا بمحسن البرازي يصيح: “دخيلكم ارحموني، أطفالي أنا بريء”. وما كاد محسن يصل إلى هذا الحدّ من كلامه، حتى انطلق الرصاص يمزق الرجلين ويمزق أزيز سكون الليل).
يذكر أنّه لم يتم التعرّف على قبر الزعيم حتى الشهر الأول من عام 1950، وقد عثر على جثّته تحت كومة من الحجارة في منطقة أم الشراطيط، وتم دفنه في مقبرة الدحداح في دمشق.
قال عنه الرئيس السوري السابق خالد العظم: “متهور وطائش”، وقال عنه الصحفي والمؤرّخ، باتريك سيل، في كتابه “الصراع من أجل سوريا” بأنّه “مقامر، وقليل المثل العليا، وغير مستقر عاطفياً، وسهل الاستثارة، وشجاع إلى حدّ التهوّر، وتعوزه البراعة في رسم الخطط العسكرية”.
ليفانت- طه الرحبي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!