الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • حول الانتماء المتضارب للمكونين العربي والسرياني إلى الأمة الديمقراطية

حول الانتماء المتضارب للمكونين العربي والسرياني إلى الأمة الديمقراطية
شفان إبراهيم
تشكل النظريات السياسية عادةً، إطاراً للتأسيس الأخلاقي والسياسي ونمطاً للإنتاج، وإطاراً للأفكار والتطبيقات والممارسات، سواء الديمقراطية أو الشمولية، وكلّها في الإطار العام تنظم الحياة السياسية لحياة الجماعات على اختلاف انتماءاتها. هذه النظريات وتطبيقاتها العملية تسعى لتنظيم قانوني لها لتنسجم مع العلاقات الدولية عبر هيئات ومنظمات تحفظ للنظام السياسي فعاليته على المستويين المحلي والخارجي، سواء كمفاهيم المشاركة الديمقراطية بما يضمن الحقوق السياسية للأفراد، أو دولة الرعاية، بما يحقق حقوقاً اجتماعية للجميع.

بالمجمل، وعلى اختلاف التسميات وأنواع النظم السياسية، فإنّ القاسم المشترك بين كل تلك الأنظمة كان اشتراك المنتسبين إلى أيَّ كتلة سياسية بالتوجه والعمل والعمق السياسي للإطار الذي يحتويهم، بغض النظر عن الاختلافات الإثنية واللغوية... إلخ، إلا أنهم جميعاً كانوا يدافعون عن فكرتهم بسوية متساوية من الانتماء، منطلقين من قاعدة ثابتة، أن النظم السياسية لا تحميها الأسلحة، ما لم تجد قواعد شعبية عارمة تنتمي إلى أرومات مختلفة تضحي في سبيلها.

وفي الوقت الحالي، يدور الحديث حول نوع جديد من "الحلول" لحياة الشعوب، خاصة في الدول المركبة، والتي جاء بها زعيم حزب العمال الكوردستاني السيد "عبد الله أوجلان"، والتي تُعرف بـ"الأمة الديمقراطية"، وطرحها كحلّ لمواجهة ما أسماها بالمشاكل القومية والتي تتسبب بالصراعات المستمرة في المنطقة، وفق تعبيره، وهذا النوع من الأمة، قائم على القطع والابتعاد عن كل ما سبقه من أنواع النظم السياسية والأمم. حيث تقول الأدبيات والطروحات النظرية التي طرحها إنها جاءت لإزاحة البنى التقليدية للتنظيمات السياسية الاجتماعية والمفاهيم القومية الخاصة والضيقة، والتي تتسبب وفقاً "للأمة الديمقراطية" بنزعات "قوموية" دموية يصعب الخروج منها، بعكس مفهوم "الأمة الديمقراطية" التي تقول إنها تسعى إلى حالة جمع الكثرة في الوحدة، وحماية الوحدة عبر مفهوم الهويّة الجامعة، وتقول إن الطرح السياسي لها هو الإطار الجامع المانع كنمط تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتالياً تحول "الأمة الديمقراطية" إلى الفاعل الرئيس في نظام العلاقات البينية السياسية بين الجماعات والأطر السياسية والمجتمعية المختلفة، وتجتمع في هويّة أخوة الشعوب والإدارة الذاتية كأبرز أرضيات وأدوات تفعيل وتطبيق هذا النموذج الجديد من نماذج العيش المشترك.

لذا ووفقاً لهذا الطرح السياسي، يتحتم على الكتل والأشخاص المتواجدين في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا تجاوز "الأطر القومية الضيقة"، والتخلّي عن انتماءاتهم "القوموية" والانتماء الخالص إلى "الأمة الديمقراطية"، بعيداً عن انتماءاتهم الخاصة، والتي تُسمى الضيقة والعُصبية، كمفهوم القوميات العربية، الكُردية، الآشورية، السريانية، بشكل منفرد، والعيش معاً في كنف الأمة الديمقراطية.

يقول السيد أوجلان في كتابه "مانفيستو الحضارة الديمقراطية –القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية"، حول أهمية ودور هذه الأمة في حياة الشعوب: "الدولة القومية التي هي إحدى أشدِّ المواضيعِ تعقيداً في علم الاجتماع، تعرض وكأنها عصا سحرية وأداة لحلِّ جميع القضايا لمناهضة للحداثة، بينما هي مضموناً تجعلُ من القضية الاجتماعية الواحدة ألفاً، ذلك أنّ مجتمع الأمة النمطية الذي ترمي إليه الدولة القومية، يُنشئ مواطنين مُصطنعين ومُزيفين، مشحونين بالعنف، يبدون متساويين حقوقياً، لكنه يعاني من أقصى درجات اللامساواة في جميع ميادين الحياة، فرداً وكياناً جماعياً". وهو بذلك يحدّد السبب المباشر لكل المشاكل في السلطة القومية القائمة على لون واحد، وهي تفرز المشاكل تلو الأخرى. ويضيف: "من أجل التحول إلى أمة، يجب أن يتكوّن عالمٌ ذهنيٌ وثقافيٌ مشترك.. وإن التحول إلى أمة قومية يعد غاية نموذجية وأساسيّة للحداثة الرأسمالية لكنها ليست النموذج الوحيد للأمة وهي شوفينية ومنبع المشاكل والقضايا الخلافية". بمعنى أنّ جميع أنواع الأمم الأخرى إنما هي الباعث والمحرك الرئيس في كل المشاكل والخلافات الدموية.

ويقول عن نموذج الأمة الديمقراطية: "فهو النموذج القابل للاشتقاقِ من الأمة الثقافية، والذي يلجم القمع والاستغلال ويدحضهما، فالأمة الديمقراطية هي الأمة الأدنى إلى الحرية والمساواة. وتأسيساً على هذا التعريف، فهي تُشكل مفهوم الأمة المُثلى للمجتمعات الهادفة إلى الحرية والمساواة". ويتحدّث أوجلان عن سوء الدولة ذات اللون والصيغة الأحادية، منتقداً بناء دولة لكل أثنية أو مذهب أو قوم يفيد بعولمة الرأسمالية، والحلّ وفقاً للسيد أوجلان "النهج الأم للتحوّل بشأن القضية الوطنية في التراجع عن الحل الدولي القومي، والعمل أساساً بالحل الديمقراطي البديل، والحل الديمقراطي بدوره يعبّر عن البحث عن دمقرطة المجتمع خارج إطار الدولة القومية". كل ذلك وفقاً لما جاء به السيد أوجلان.

وتاريخياً عُرفت الأمة على أنّها "انتماء ثقافي عرقي لغوي للجماعة". والربط بين الأمة والديمقراطية -وفقاً لتصور الأمة الديمقراطية- يفضي لتصوّر علاقتهما بالدولة التي هي "الإطار القانوني للجماعة"، والتي استبدلت واستعيض بالدولة، الإدارة الذاتية. هذه الأمة الديمقراطية والتي يعتبرها أنصارها شيئاً مهماً في مسار الحداثة السياسية، لابد لها أن تمتاز بوضوح ووحدة الموقف لمكوناتها وانتمائهم إلى هذه الأمة التي لا تقبل ازدواجية الانتماءات إلى إطارين سياسيين للجماعة، كأن ينتمي العرب المنخرطين في الإدارة الذاتية إلى الأمة العربية وادّعائهم بالانتماء إلى الأمة الديمقراطية أيضاً. فوجود أكثر من مكون أو قومية أو شريحة شعبية، هو بالدرجة الأولى واقع طبيعي لإحياء وإنعاش هذه الإدارة، والأهم هو ماهية العلاقة التي تربطهم معاً، والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها وجدّية وحقيقية تبعيتهم للأمة التي تحكمهم، أي تجانس الطرح القائم مع الهدف المشترك والمصير الواحد، وليس هذا التحول بمعطى جاهز عرضي، بل هو نتيجة جهد تقوم به الجماعة ذاتها.

ووفقاً لذلك، حددت قيادات كُردية ذات تأثير فعال في العملية السياسية ضمن الإدارة الذاتية، قسد، مسد، الاتحاد الديمقراطي، علاقتها مع المفاهيم القومية الخاصة بالكُرد، والاستدلال على أهمية الأمة الديمقراطية بانتهاء عصر القوميات الخاصة، واستحالة العيش المشترك خارج السياق التكويني للأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب، وأعلنت القطع مع الأمة الكُردية لصالح الأمة الديمقراطية، وكنواظم لتطبيق هذه المفاهيم والمبادئ، تقول الإدارة الذاتية إنها أرست هيئات ومراكز قرار محلية ورئاسة مشتركة وتمثيل عربي _ آشوري _ سرياني وازن، ومنحهم شراكة في صناعة القرار السياسي والتنظيمي ودور في تبوّء المناصب السيادية، وفعالية كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي، لكن كل ذلك لم يخلق حافزاً لإيجاد صدىً عملي وفعلي، وبما يتطلبه إثبات الانتماء إلى الأمة الديمقراطية من قبل النخب العربية والآشورية السريانية في الإدارة الذاتية وغيرها من التشكيلات، خاصة مع التعريف الجامع الذي أورده يورغن هابرماس حول علاقة الأمم فيما بينها على أنّها "جماعات منحدرة من أصل مشترك مندمجة جغرافياً بعلاقات الجوار وثقافياً بطريق اللغة والتقاليد المشتركة" وبحكم أن العرب والكرد والآشوريين السريان لا ينتمون إلى قومية أو إثنية واحدة، لكنهم يشتركون بعلاقات ثقافية وجغرافية مشتركة. تقول أدبيات الاتحاد الديمقراطي إنها سعت لتوفير حمولة سياسية للأمة الديمقراطية وجعل مجموعة من الشعوب بمثابة الجسم السياسي لها والدفع بهم للعيش تحت قانون مشترك ممثلين بتشريع ونظام سياسي وفكري وثقافي واحد، ومناهج تربوية بتعددية لغوية.

لكن وبعد قرابة الــ/10/ أعوام من الطرح والتضحيات والدماء، لم تتبلور فكرة الأمة الديمقراطية بتجسيد عملي حقيقي، فالمكون العربي ضمن الإدارة الذاتية لم يتخلَّ عن أمته وكياناته وانتماءاته العرقية والهويّاتية، ولا الآشوريون السريان الذين أعلنوا القطيعة مع الفكرة القومية الأحادية بشكل عملي وواضح، ولم تشهد كتلهم التنظيمية ومشاركاتهم السياسية والإعلامية أي قطع أو ابتعاد عن الدولة القومية، والأمة العربية ومفهوم العروبة أو الآشورية السريانية، محتفظين بهويّاتهم وانتماءاتهم الفرعية الخاصة، في حين انحصر عمل النخب الكردية بإعلاء راية الأمة الديمقراطية. كما أن تركيز الإدارة الذاتية لشرح مفهوم الأمة، على أنها ظاهرة اجتماعية تعتمد على وجود جماعات بشرية ترتبط فيما بينها بروح الترابط الاجتماعي والاتحاد والعيش معاً وفق قيم ونظام سياسي واحد على أرض معينة، والقول بوجود فكر جديد لقيادة المجمع وتنظيمه، وسعيها لخلق مشتركات وإمكانيات تواصل مستمر بين أفراد الشعب، عبر تقسيم العمل أو المناصب، وتوزيع المهام لضمان ولاء المكونات الأخرى غير الكردية، ليس فقط لم تنجح في خلق كتلة متجانسة لجهة وحدة الانتماء، بل وفي معرض سعيها لفرض سياساتها نسيت أو تناست أن الإنتاج وتوزيع الخيرات والخدمات والتعددية السياسية وحرية الرأي إنما هي عصب المجتمعات، والمؤسف والخطير أنّ الطرف الكردي وحده من قوقع انتماءاته القومية الكُردية والكُوردستانية، في حين أنّ البقية تكبر كرتها وحجم الالتزام بهويّاتها الفرعية الخاصة، والتأكيد على عدم التنازل عن مفهوم الأمة العربية، الآشورية لصالح الأمة الديمقراطية.

وهو ما يضع أولاً وحدة المصير والموقف والانسجام السياسي على مستوى الطرح النظري والعملي لمفهوم الأمة الديمقراطية، ومقارنته بالممارسات والتوجهات السياسية للمكونات ضمن الإدارة الذاتية، ويضع الكُرد ثانياً، في وضعٍ ضعيف وحشرهم في الزاوية الضيقة. فلا يمكن للعرب والآشوريين السريان الانتماء إلى أمتين في وقت واحد؛ لتعارض ثنائية الانتماء مع البعد والإطار السياسي للأمة الديمقراطية التي لم يُقدموا انتماءهم المطلق لها، أو مع ما جاء به أوجلان حول "ضرر وسوء وشوفينية" الأمة القومية وحصره آلية الانتماء إلى الأمة الديمقراطية بفصل وقطيعة مع باقي المفاهيم والأمم والهويّات الخاصة بالأمم القومية. فهل ستخرج النخب العربية والآشورية السريانية القيادية في مختلف التشكيلات وهياكل الحكم المحلية الإدارية والعسكرية، للإعلان علانية بانتمائهم الواضح والصريح إلى الأمة الديمقراطية بما يتطلبها الإشهار بقطع العلاقة مع مفاهيم العروبة والدولة العربية والآشورية السريانية؟ سؤالٌ برسم الإجابة.

شفان إبراهيم

ليفانت - شفان إبراهيم

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!