الوضع المظلم
الأربعاء ٠٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
حاتم علي.. وداعاً
نزار أبو نوار

هل من المبالغة القول إنّ من أهمّ ما أنجزه الراحل، الفنان المبدع، المخرج الكبير "حاتم علي"، في رحلته الفنيّة الطويلة، ورحلة حياته القصيرة، هو حصوله على إجماع محبّة واحترام السوريين، جميع السوريين، في ظروف التشظّي غير المسبوقة على جميع الصعد والمستويات، التي خلقتها عصور طويلة من الاستبداد، ومراحل متتالية من حرب مدمّرة؟


أن تنال شخصيّة سوريّة عامّة، غير محسوبة، أو مرتهنة لطرف سياسي محدد، في تخندقات الصراع، كلّ هذه الشهرة والنجاح، في حياة صاحبها، وأن تصنع في وداعه حالة إجماع بين السوريين، كاد الجميع يفقد الأمل بإمكانية الوصول إليها، قد يصبح، كما يعتقد البعض، إنجازاً وطنياً، ويشكّل رافداً للأمل الواعد بقيام سوريا، موحّدة، على صعيد الموقف والمشاعر، كخطوة أولى.


إذا كان من الواضح أن ليس المجال هنا لتقييم الراحل فنيّاً، أو للحديث عن جوانب سيرته الفنّية الغنيّة، فهل يجوز في إطار المشاركة في التعبير عن مشاعر السوريين، التي فاضت حزناً على رحيله، الافتراض أنّ سرّ تميّز الراحل يكمن في جانبين؛ جسّدا، بشكل متكامل، الرسالة التي حملها الفنان، والإنسان، حاتم علي، والتي تعبّر بصدق عن ظروف حياة حقيقيّة، عاشها وعايشها طويلاً في مخيّم اليرموك الفلسطيني، شكّلت لديه انطباعات وقيم، عمل على تجسيدها في سلوكه الشخصي ومسيرته الفنيّة، تمثّل الجانب الأوّل في بحثه وسعيه لمعرفة الحقيقة التاريخيّة، سواء في سياقها البعيد، الموغل في القدم، أو في عصور التاريخ الأقرب الحديثة، بينما ظهر الثاني في انحيازه لخيارات السلام، وتعاطفه مع تطلّعات السوريين المشروعة بتحقق ظروف العدالة والمساوات ومقومات السلم الأهلي، فهل في هذا الاستنتاج فانتازيا قراءة "سياسيّة"، ليس لها علاقة بالفن والإبداع الدرامي؟


أعتقد أنّ ما يشجّع العقل على المخاطرة في البحث والاستنتاج  هو حقيقة سعي الراحل في جميع أعماله التاريخيّة تلك للخروج بالوعي السياسي الشعبي من دائرة القراءة المسيطرة الرسميّة على الفضاء الثقافي والسياسي لأحداث تاريخيّة، قديمة وحديثة، راهنة.


ألا يبدو جليّاً ما كرّسه المخرج السوري لفترة طويلة من مسيرته الفنيّة في محاولة لإصلاح التشوّه التاريخي، الذي ضيّعت حقيقة أحداثه عصور استبداد سياسي متتالية، جسّده اختياراته "للسِّير التاريخية"،  التي قدّمها، سواء في محاولة لإعادة قراءة موضوعية لمراحل تاريخيّة بعيدة ما تزال تحمل إشكاليات قائمة أو في تناوله لأحداث تاريخيّة حديثة، تطرح قضايا وهموم راهنة، تمسّ مصالح شرائح كبيرة من السوريين؟


نعم، في أعمال تاريخيّة كبيرة، تناولت شخصيات وعصور جاهلية إسلامية رئيسة، مثل “عمر”، أو “صلاح الدين الأيوبي”، أو ثلاثية الأندلس؛ “صقر قريش”، “ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”، أو “الزير سالم”. جَهِدَ الراحل لتحريك عقارب الزمن في محاولة لإعادة قراءة تاريخ العرب، وتشكيل وعي سياسي تاريخي راهن مختلف عبر الكاميرا، التي تضبط الزمن، متلبّساً في مكانه الأصلي، ليس فقط لإبراز ما يحمله من قيمة تاريخيّة، بل لرؤية الحدث التاريخي منظار أحداث معاصرة، يعتقد المؤلّف والمخرج أنّها تتقاطع في سياقها الراهن مع أسبابه وتفسيره في سياقاته التاريخيّة الموضوعيّة. وفي أعمال تاريخيّة حديثة، مثل "الملك فاروق"، ألم يُظهر المخرج السوري الراحل، كما أزعم، شجاعة سياسيّة في تناولٍ مُختَلف لأحداث مرحلة تاريخية ما تزال في وعيها الشعبي والرسمي السائد، تحمل الكثير من أوهام القداسة؟ ألا ينسحب هذا الاستنتاج على أعمال أكثر أهميّة؟


إذا كان من الصحيح أنّه في “التغريبة الفلسطينية”، قد وضع جلّ اهتمامه في إعادة سرد تفاصيل المعاناة الفلسطينيّة، منذ الانتداب البريطاني إلى ما خلّفته هزيمة حزيران ١٩٦٧، من تداعيات كارثيّة شكّل  تهجير ملايين الفلسطينيين والعرب أكثرها بروزاً، فهل يصحُّ التخمين أنّه حاول أيضاً في هذه الملحمة التاريخيّة بتشويق درامي وشحن عاطفي، وطني وقومي، ومن خلال  إنعاش الذاكرة العربية، والضمير الإنساني بما واجهه شعب مسالم من حروب ظالمة، أن يستشرف أحداث المستقبل وصراعاته، وأنّ يكشف، بعبقريّة السياسي، الخيط الرفيع الممتد، زمنياً وسياسياً، بين ظروف التغريبة الفلسطينيّة، من جهة، وظروف معاناة شعوب المنطقة، والشعب السوري، خاصّة، محذّراً من نتائج لا تقلّ إيلاماً قد يجرّها نهج الاستبداد السياسي الوطني على شعوب وجغرافيا دول المنطقة.



ألا يؤكّد ما أذهبُ إليه من "تخمين"، تناول أعماله الدراميّة الأشهر لقضايا اجتماعية وسياسيّة، تمسّ الحياة اليوميّة الخاصّة، والهموم السياسية، الوطنية العامة، لشرائح واسعة في المجتمع السوري، إلى درجة جعلت مسلسلات أعمال الراحل تشكّل جزءاً أساسياً من حياة السوريين اليوميّة، الأكثر متعة وتشويقاً؟ 



النماذج الأهمّ، مثّلتها سلسلة من الأعمال العظيمة، بدءاً من "الفصول الأربعة" و"الغفران" و"أحلام كبيرة" و"قلم حمرة"، وليس انتهاء بالمسلسل الأبرز لهذا النجاح الكبير؛ "عصيّ الدمع".


في "قلم حمرة"، يصوّر المخرج تأثير "الثورة"، وما سبقها على الطبقة الوسطى السورية، في حين يجسّد الراحل في مسلسل "عصيّ الدمع"، عبقرية التشبيك بين خيوط الماضي، وحقائق الواقع من أجل خلق وعي سياسي موضوعي، فحَمل المسلسل عنوان قصيدة أبي فراس الحمداني، التي أبدعت كوكب الشرق، أمّ كلثوم، في أدائها، وأخذ حبكة درامية آخّاذة، جمعت بين الموسيقا الغربية والكلاسيكيّة الشرقيّة، ليرسم اللوحة الأكثر صدقاً عن أخطر تمظهرات أزمة الواقع السياسي التي يعيشها الشعب السوري، محذّراً، ربّما، من عواقب في حال استمرار تجاهل أسبابها الجوهرية.



صحيح أنّ المسلسل يُعالج قضايا عديدة تمثّل أخطر المشاكل المعاصرة في الحياة الاجتماعية السوريّة، كأحوال المرأة والشرع والحياة الأسرية ومشاكل المراهقين ونظرة الدين والمجتمع للمرأة، لكن يبقى تناوله لحالة الفساد داخل جسم "المؤسسة القضائية"، من أكثر المواضيع جرأة وحرصاً على الدفاع عن المصالح العليا للشعب السوري. (١).


ألا يتوافق أيضاً مع تلك "الهلوسات الاستنتاجيّة"، حصول الراحل على "وسام شرف" الطرد من نقابة الفنانين، ليس لها علاقة بقضايا الشعب السوري العادلة، وما جرّته عليه مواقفه الوطنيّة الديمقراطية، في ظروف الهجرة القسريّة، من جروح يصعب اندمالها.


على أيّة حال، يُشكّل رحيل الفنان الكبير حاتم علي، في مرحلة مازال فيها في أوج عطائه الإبداعي، المتعدّد الجوانب، خسارة كبرى شخصيّة على صعيد عائلته الخاصّة، كما على صعيد الساحة الفنيّة العربية والإنسانيّة.


السلام والتحيّة لروح الراحل وكلّ الاحترام والتقدير لشرفاء هذا الشعب المظلوم.


(١)-يلعب الراحل دور قاض، يتحوّل بسبب ظروف عمل غير طبيعيّة، وبنقلة دراماتيكيّة إلى "ساعاتيّ"، في محاولة لفضح حالة الفساد المستشري في جسم أهمّ مؤسسات الدولة، ولكشف ما وصلت إليه الحالة من استحالة إصلاح النظام القضائي، باستخدام نفس وسائل العلاج المتبعة.


يصف الصحفي اللبناني "إبراهيم الأمين"، بعبارات رائعة تميّز "عصيّ الدمع": "حتى عندما يغيب السياق التاريخي، بمعناه التقليدي، يحضر التوثيق، بأبعاده المجتمعية، مع ما يحمله ذلك من رسائل مبطنة وذكية، يضمّنها في المشاهد والحوارات واللقطات اللمّاحة والموهوبة التي تقول الكثير بوقت قصير وتصفع المشاهد لإيقاظه من رتابة الحياة إلى صدمة الدراما.


هكذا مثلاً يدخل خالد تاجا في مشهد متكرر في “عصي الدمع” يومياً إلى قصر العدل ليسأل أحد المحامين: “سؤال لو سمحت يا أستاذ؟ نحنا هون وين؟”، وحين يجيبه “نحنا هون بقصر العدل”، يستدرك تاجا: “قصر شو؟”، ليرد المحامي بثقة: “العدل”، فينفجر تاجا من الضحك".


ليفانت - نزار أبو نوار  


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!