-
حاتم علي والأزمة السورية
كُتب الكثير عن حاتم علي، ولفترة طويلة قادمة سيكتب عنه، أما أعماله فستبقى خالدة لأجيال وأجيال. حاتم علي من المخرجين والفنانين القلائل الذين يعملون على مشروع ثقافي وتنويري وتوعوي متكامل، يلاحظ ذلك بوضوح من خلال القضايا المطروحة في أعماله. حاتم علي
لن أتحدّث هنا عن الراحل الكبير وسيرته الفنية وأعماله المحفورة في وعقول وقلوب المشاهدين، لكن سأحاول قراءة المشهد الأجمل الذي صنعه حاتم ، صنعه لكن لم يره.
المشهد هو نهر بشريُّ ينساب من مشفى الشامي إلى جامع الحسن في جنازة لرجل أجمع السوريون على محبته واحترامه، وأكد في مماته أنّه بإمكان السوريين أن يلتفوا ويجتمعوا حول من يشعر بآلامهم ويتحدّث عن آمالهم ويعاملهم بصدق وإخلاص وأمانة.
في هذا المشهد، كانت دموع الناس وأناشيدهم واجتماعهم تعبر عن قضية تخصّهم، عن حالة احتجاجية، عن غضب وقهر في نفوسهم، هم بشكل ما يرثون أنفسهم ويبكون على عمر مضى. الجنازة لم تكن في شوارع دمشق فقط بل كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، جنازة مهيبة وحّدت السوريين ونادرة المواقف التي وحدتهم هي هكذا أكثر من كونها قضية تخص حاتما.
ماذا لو مات حاتم علي في نهاية عام 2011؟
مع بداية الأزمة السورية، ظهر الشرخ واضحاً بين السوريين، وساد الخطاب الشعبوي والمتشدّد لدى طرفي الصراع، وتم ترديد شعارات لا تدلّ إلا على عقل جمعي إقصائي مريض ومنافي لقيم الوطنية والإنسانية والديمقراطية.
على سبيل المثال، الهتاف الذي نطق به جمهور الثورة "يلي ما بشارك ما فيه ناموس"، وسيل الشتائم الموجّه لهيئة التنسيق الوطنية عندما لم تؤيد التدخل الخارجي تحت الفصل السابع. وهذا ضد ثورة تطالب بالحرية والديمقراطية. أما في الطرف المقابل، كان شعار الأسد أو نحرق البلد، وهذا أيضاً لا يعكس حالة انتماء للوطن والدولة.
استمرّ هذا الشرخ لعدة سنوات بعد الأزمة، والجميع يذكر نهاية عام 2016، عندما كتب الشاعر والرسام منذر مصري مقالاً بعنوان (ليتها لم تكن)، وأقام الفنان التشكيلي، يوسف عبدلكي، معرضاً للوحاته في العاصمة دمشق تحت اسم (عاريات). وما تبع المقال والمعرض من تشهير وتخوين وتشويه لحقيقة الرجلين من قبل أسماء كبيرة في المعارضة السورية وأزلام تلك الأسماء، على الرغم من أنّهما اختارا البقاء في البلاد والعمل من داخلها، لم يشفع تاريخ وحاضر يوسف عبدلكي ومنذر مصري عندما قدما عملاً لم يفهمه الآخر أو لم يعجبه، أو فسّره على هواه.
الشهر الأخير من 2020، شهد رحيل شخصيات بارزة وقريبة من وجدان السوريين، وهم المناضل النبيل يوسف عبد الحميد، والمهندسة صاحبة اليد البيضاء، مها جديد، وأخيراً، المخرج حاتم علي، لنجد في رحيلهم شكلاً من أشكال تقارب الرؤى عند السوريين، وإن كانت جنازة حاتم علي هي الأبرز لتأكيد أنًّ التغيير طال الآلية الذهنية لدى شعب لم يتفق منذ سنوات على فكرة أو شخص.
هي بداية صغيرة لكن لا يجب إهمالها كجزيرة جميلة جداً وصغيرة، عدم رسمها في الأطالس لا يمنحنا الحق في إنكارها.
أصبحنا على طريق تشكل وعي سياسي جديد تمظهر بسلوك السوريين ورود أفعالهم ومواقفهم، بعد عشر عجاف لم يكتب الموالون أنّ حاتماً كان معارضاً لنظام الأسد، على الرغم من موقفه المعارض، بل لم تعد "الوطنية" حكراً على نجوم شاشات الفضائية السورية وقناة الدنيا وأصحاب الخطب الرنانة والشعارات، كما كانت منذ عقد من الزمن.
وفي الطرف الآخر، اقتنع جمهور الثورة أنّ المعارضة موقف يتخذه الإنسان ويعبّر عنه بطريقته الخاصة، بحسب عقليته وبيئته وأسلوبه الخاص، قد لا يكون منها التقاط الصور مع الضباط المنشقين، والإقامة في فنادق خمس نجوم، ولقاء دبلوماسيين، من أجانب وعرب.
لم تعد "الثورية" حكراً على السبّاب الشتّام، بل قد يكون الصمت تعبيراً بليغاً عن موقف سياسي، خصوصاً إذا كان هذا الصمت لفنان يعبر بأعماله أكثر مما يعبر بلسانه.
نهاية التخوين والإقصاء عند طيف واسع من السوريين لا يعني انتفاء الصفة وزوالها، وإن ضاقت مساحتها. هذه اللوحة لا يمكن بأي حال أن تكون نقية صافية، ونجد كارهين لها، وهذا أيضاً أمر طبيعي. يكفي أن نرى موقف وزارة الثقافة السورية ونقابة الفنانين من طرف، وغسان عبود، بما يمثله من خط سياسي من طرف آخر، لنرى كيف اجتمع الطرفان ضد من اجتمع السوريون حوله، وكيف تعامل كل طرف مع موت شخصيات (لست بصدد تقييمها) لكن مُختلف عليها بين السوريين، هما قاسم سليماني وعبد الباسط ساروت.
بموت قاسم سليماني، قُدّمت التعازي لإيران باسم السوريين على الرغم من أنً الموالين أنفسهم غير متفقين عليه وعلى الدور الذي تلعبه إيران في سوريا والمنطقة، وبالقطع كل المعارضين لا يجدون به إلا عدوّاً لهم.
الأمر نفسه مع عبد الباسط ساروت، المعارضين غير متفقين على ثورة الساروت وبالقطع كل الموالين يرونه عدوّاً لهم. لكن الشعب أثبت أنه لا ينكر من يقدّم له قيمة جمالية دون أن يطالبه بمقابل، من يقدّم له الرقي، من يحترم عقله ولا يستخف بإنسانيته، من يقدم له الدفء والخبز و"ليس بالخبز وحده يحيا الانسان".
الشعب السوري يثبت أنّه يتوحد عندما تهيأ له الظروف، وأّنه توّاق لحل سياسي ينقذ البلاد ومن فيها، حل حقيقي يستند على الشرعية الدولية وتطبيق القرار 2254، وهذا ما يجب أن تدركه القوى السياسية الفاعلة في البلاد، ليس فقط من أجل من في الداخل، بل من أجل (تيم) الذي قال في نهاية مسلسل قلم حمرة:
ورد: ليش أنت راجع وين بدك يانا نتزوج؟
تيم: بالبلد يا بنت البلد.
ورد: عن أي بلد عم تحكي؟ أنت ما بتحسن ترجع، بكل الأحوال أنا بدي كون معك وين ما كان.
تيم: ما في وين ما كان هو مكان واحد هلأ أو بكرا أو يلي بعدو رح كون فيه. حاتم علي
ليفانت - مصطفى سعد
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!