-
تفكيك قانون الإرهاب
في إحدى الندوات، منذ عدّة شهور، تحدّثتُ في قاعة الندوات بجريدة روز اليوسف عن داعش وأفكارها، وكيف أنّها تنتمي إلى أبٍ واحد، وإلى مشروع واحد، وأنّ هذا المشروع هو أحد المسوخ الفكرية التي حاولت أن تنسب نفسها للإسلام لكي تستفيد من استقطاب الشباب وتجنيدهم، أما الإسلام نفسه في صورته النقية، فهو لا يعرف تلك الأفكار الشيطانية.
وكان أحد المتحدّثين قد تحدّث قبلي، فأرجع ظاهرة الإرهاب، وفقاً لوجهة نظره، ليس إلى المشروع ولكن إلى الفقر والجهل، وكان تعقيبي على هذا، أنّ إلقاء التبعة على الفقر والجهل هو في الحقيقة هروب من الحقيقة، وبمعنى أكثر دقة، هو إخفاء للحقيقة، وخلط بين القانون وأدوات القانون، ففي كتاب شهير في علم الاجتماع اسمه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” للفيلسوف الفرنسي “إيمل دور كايم”، وفي إحدى صفحات الكتاب يقول الكاتب الكبير: “لا يمكن أن تبحث ظاهرة اجتماعية دون أن تربطها بباقي الظواهر في المجتمع” ولك أن تضع تحت هذا السطر خطاً بالقلم الأحمر، ثم اكتب معي على جانب الصفحة “ظاهرة التطرّف” ثم أضف “ظاهرة الإرهاب” وفي أسفل الصفحة اكتب: “هل الإرهاب مرتبط بظاهرة الجهل والفقر؟”.
وحينما تستكمل قراءة الكتاب، فإذا بسطر آخر سيقابلك، يقول فيه هذا الفيلسوف: “ليس بالاستطاعة تغيير طبيعة هذه الظواهر إلا بمعرفة القوانين التي تخضع لها”. إذن للإرهاب قانون، ومعرفة هذا القانون هي التي ستيسّر لنا كيفية المواجهة، ولا يمكن للفقر أن يكون قانوناً للإرهاب، لأن أثرياءً كباراً هم رموز للإرهاب، ولا أظنكم تنسون أسامة بن لادن وخيرت الشاطر وغيرهما، وكذلك الجهل، فليس هو القانون، ولا أظنه يغيب عنكم أنّ كثيراً من علماء الأزهر ينتمون لمدارس الإرهاب والتطرّف، فضلاً عن أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات، الفقر والجهل قد يكونا أدوات لاكتساب أنصار للإرهاب، ولكن القانون غير الأداة، القانون في حالتنا هذه هو “المنتج الفكري” الذي يتم تمريره للجميع، فقيرهم وثريهم، عالمهم وجاهلهم، على أنّه هو الدين، القانون هو “العقيدة المشوّهة” التي ينعق بها غربان المنابر منذ سنوات بعيدة، فيتلقّاها الكل على أنّها صحيح الدين، وما هي كذلك، ولأنّ العقيدة المشوهة سادت وتسيّدت، أصبح العارف يخاف أن يواجهها حتى لا يدوسه المجتمع الذي آمن بهذا الفكر المريض، إلا أنّ هذه العقيدة المشوهة لا يمكن أن تتفاعل إلا مع نفسيات معقدة، لذلك فإنّ أصدق القول هو أنّ الإرهاب والتطرّف ظاهرة نفسيّة، تفاعلت مع عقيدة منحرفة مشوّهة فأنتجت عملاً إرهابياً متطرفاً يخالف الفطرة الإنسانية السليمة.
ولأنني عايشت جماعة الإخوان عن قرب، وأعرف كل كبيرة وصغيرة فيها، لذلك كان تعقيبي متضمناً حقائق لا يستطيع أحد إنكارها، وكان مما قلته، إنّ قادة الإرهاب ورموزه هم من كبار الأثرياء، فما الذي دعاهم إلى تطرفهم الإرهابي، وجماعة الإخوان كلها تنتمي إلى الطبقة الوسطى ويحمل أفرادها شهادات جامعية، فمنهم الطبيب والمهندس والمحامي وأساذ الجامعة، ومنهم المقاول ورجل الأعمال وأصحاب المدارس، قانون الإرهاب أيها الناس لم يقم إلا على منتج عقائدي فاسد لا علاقة له بالإسلام في نقائه وعدله ورحمته.
وجماعات الإسلام السياسي تلاعبت بمفاهيم الإسلام النقية باستخدام أدوات فقهية في غير موضعها، فمن خلال الضرورات تبيح المحظورات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أصبح ارتكاب الجرائم الإرهابية مقنناً بصورة شرعية، هذه هي الأدوات الفقهية التي تيسّر لهم ارتكاب الخطايا دون أن يرمش لهم جفن، يستندون في خطواتهم الحركية إلى قاعدة “تكثير المصالح ودرء المفاسد” ويلقنون شبابهم أدلة في غير موضعها عن وجوبيّة التنظيم، لأنّه هو الذي سيقيم الخلافة دون غيره، ولأنّ هناك، وفقاً لمفهومهم، من يقف ضد هذه الفريضة المزعومة _فريضة الخلافة_ لذلك يقولون في دراساتهم ودروسهم (يجب علينا أن نسعى إلى إقامة فريضة الخلافة بكل الوسائل، حتى ولو كانت هذه الوسائل في ظاهرها مفسدة، “فالضرورات تبيح المحظورات”، وهذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية الفرعية، فقد أدرجها بعض العلماء تحت قاعدة “إذا ضاق الأمر اتّسع” و”لا حرام مع ضرورة”، هذا هو كلامهم المحفوظ الذي ما فتئوا يرددونه على مدى أجيال وأجيال.
ليس هذا هو الإسلام الذي نعرفه، فالإسلام الذي نعرفه هو النغمة التي بثّها الله في الكون، لتتكامل بها سيمفونية _الخلائق_ الإسلام هو رسالة الحب التي لم نفهم كلماتها الرحيمة، أنزل الله الإسلام علينا كي يكون رسالة للعالمين، فأصبح رسالة عربية، قمنا بتعريب الإسلام وقصره على أفهام العرب، وأدخلنا عليه أعرافهم وتقاليدهم وطريقة تفكيرهم، فأضعنا كثيراً من معالمه، الإسلام أوسع مدى من عقولنا الضيقة وأفهامنا الغليظة، وحين طلب الله سبحانه من البشر كلهم تعمير الدنيا (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، لم نركن إلى قيم التعمير، واستخدمنا الدين للتخريب، فإذا لم نقم بمواجهة قانون الإرهاب وتفكيكه، سيظلّ ينتج لنا جماعات إرهابية، نعم مواجهة الإرهابيين ضرورة، ولكن مواجهة قانون الإرهاب أشدّ ضرورة.
ثروت الخرباوي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!