-
انقلابات حزب العدالة والتنمية على نفسه داخلياً وخارجياً
منذ وصوله إلى الحكم في العام 2002، تعهّد حزب العدالة والتنمية بانتهاج سياسة جديدة في تركيا، ترتكز في الأساس على محاولة رأب الصدع داخل المجتمع التركي المنقسم أساساً إلى مكونين اثنيين، فصلت بينهما حكومة على الدوام، معتمدةً سياسة إقصائيّة بحقّ أحدهما وهم "الكُرد"، على حساب تمجيد المكون الآخر وهم "الترك"، عبر منح الأخير مختلف مناصب الحكم في البلاد وحصر الوطنيّة فيهم، وإطلاق تسميات مختلفة على "الكُرد"، وانتهاج سياسات خاصة بحقهم، بهدف حلّهم ودمجهم بالأتراك، في توليفة واحدة، وقد استخدم لذلك من قبل حكام أنقرة المتعاقبين الحديد والنار والدم، لكنه لم يفلح في عجن أمة واحدة، وهو ما استشفّه حزب أردوغان، فحاول إيجاد طريقة أخرى لجمع (الكُرد والترك)، ولو من الناحية النظريّة.
انقلاب داخليّ على الحلّ السياسي
وأي وصفة يمكن أن تتسرب إلى مختلف البيوت، أسرع من تعويذة "الدين في خدمة السياسة"، فلم يتوقّف أردوغان عن رفع الكتاب المقدس (القرآن)، في مدينة ديار بكر التي يعرفها الكُرد بـ"آمد" وتعتبر عاصمتهم التاريخية هناك، متمكناً عبر ذلك من اجتذاب قلوب الكثيرين منهم، خاصة من الآباء والأمهات الكُرد الذين رغبوا في الشعور بالأمان على مستقبل أطفالهم وأحفادهم من المصير الأسود الذي قاسوه هم وأجدادهم على مرّ السنين.
لكنّ الاحلام الكُردية بالسلام مع حزب العدالة والتنمية سرعان ما تبددت في العام 2015، عندما أعلنت أنقرة نهاية خطّة السلام مع الكُرد، ويبدو أن ذلك جاء عقب أن تمكّن الكُرد هناك من تحقيق مكاسب برلمانية في تركيا، والاستفادة من الانفتاح المؤقت الذي تم على الثقافة الكُردية في البلاد، واستحواذ حزب الشعوب الديمقراطية على تأييد شريحة واسعة من الكُرد، إلى جانب مكونات أثنية أخرى كالأرمن وقلة من الأتراك أنفسهم، وما زاد طين العدالة والتنمية بلّة، بروز الكُرد في سوريا كجزء من التحالف العالمي لمحاربة إرهاب تنظيم داعش، وهو ما دفع فيما يبدو العدالة والتنمية إلى التفكير مجدداً، خاصة وإنه قد وجد نفسه الخاسر من قضية الانفتاح على الحلّ السياسي للقضية الكردية في تركيا، فمن جهة بدأ الكُرد بالانحياز إلى حزب الشعوب الديمقراطية، ومن جهة أخرى انفضّ القومويون الأتراك من حوله، وهو ما دفعه في النهاية إلى التحالف مع حزب الحركة القومية الرافض للتسوية السياسية مع الكُرد، والذي يُصرّ أنّ الحلّ يكمن في الخيار العسكري وحده.
اقرأ أيضاً: عندما تتحوّل مليشيا “الجيش الوطني” للارتزاق، تضحى اللصوصيّة تحصيل حاصل!
هذه السياسات أتت على جزء كبير من قاعدة العدالة والتنمية الجماهيرية، ففي الوقت الذي يتوق فيه البعض من المتطرفين الاتراك إلى سفك المزيد من الدماء، وخاصة أنصار الحركة القومية والتي تدعم جماعات مسلحة توصم بالإرهاب في كثير من بقاع العالم كـ "الذئاب الرمادية"، يبدو أن أتراكاً آخرين قد سئموا الحرب وتيقنوا أن الدماء لن تجلب لهم إلا الدماء، وأن مشروع العيش المشترك ممكن، لو نجحت السلطات في ضبط المتشددين ومن يؤيدهم، فيما لو كانت تريد تركيا أن تقوم لها قائمة بين الأمم، وهو ما ذهب إليه منشقون عن حزب العدالة والتنمية، حيث دعا علي باباجان نائب رئيس الوزراء التركي السابق في منتصف مارس الماضي، أثناء الإعلان عن تأسيسه حزبه المسمى بـ"حزب الديمقراطية والتقدّم"، إلى تبني نهج جديد للاقتصاد والحقوق والديمقراطية، كما أكد على ضرورة وقف استغلال الدين في السياسة.
الانقلاب الخارجيّ على المشاكل الصفرية
أما على الصعيد الخارجي، فليس هناك من داعٍ للتذكير بنظرية أحمد داوود أوغلو القائمة على صفر مشاكل مع الجوار التركي، والتي انقلب عليها حزب العدالة والتنمية بشكل كامل، حتى أضحت تمتلك أنقرة عشرات وربما مئات المشاكل مع كل بلد مجاور، بدءاً من سوريا وصولاً للعراق واليونان، إلى جانب التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان في المحيط الأقليمي لتركي، من مصر إلى السودان إلى ليبيا، حتى لم تسلم بلدان الخليج العربي من التدخل التركي عبر دعم الجانب القطري في محاولاته الحثيثة للنيل من الوحدة العربية في وجه التدخلات الخارجية خاصة من أنقرة وطهران، التي بدأت كل منهما تتحضّر لاقتطاع ما أتيح لها من أراضٍ إن بشكل مباشر أو عبر مليشيات مسلحة، انفضح أمرها واحترق عهدها، وربما لم يبقَ لها من مستقبل سوى الآلية التي سوف تنتهي بها، إلى جانب كم هائل من المشكلات مع الاتحاد الأوروبي.
وقد بدأت المعارضة التركية استشعار الخطر الذي تشكله السياسية الخارجية للعدالة والتنمية على مستقبل تركيا، حيث أعلن رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو، في التاسع والعشرين من ديسمبر 2019، رفضه إرسال قوات تركية إلى ليبيا، موضّحاً أن نواب حزبه سيقفون ضدّ تمرير مذكرة إرسال قوات تركية إلى ليبيا، لكنه فشل في ذلك بطبيعة الحال نتيجة امتلاك الحزب الحاكم ما يكيفه من مقاعد المجلس النيابي مع حليفه الحركة القومية، وبالتالي جرى إقرار إرسال الجنود الأتراك إلى ليبيا، دون أن يكون لتركيا أدنى وجه حقّ بالتدخل في بلد يبعد عنها أكثر من 2000 كم، رغم أنها تحتجّ دائماً على تدخل الولايات المتحدة في شمال سوريا، بذريعة أنّ واشنطن بعيدة عن المنطقة.
اقرأ أيضاً: إدلب كجائزة ترضية لتركيا، بانتظار من يقدمها!
وهو ما ذهبت إليه قاراستاجي أوغلو، النائبة التركية المعارضة عن حزب الشعوب الديمقراطية، في الثلاثين من ذات الشهر، التي أشارت إلى أن الإرهابيين الذين أرسلتهم تركيا إلى سوريا، الذين يُطلق عليهم اسم (الجيش الوطني السوري)، يرتكبون العديد من الجرائم ضدّ النساء هناك، حتّى إنّ خبر مقتل السياسيّة الكردية هفرين خلف في شمال سوريا، أعلنت عنه الصحافة الموالية وكأنه بشرى سارة.
ومن الواضح عقب 18 عاماً من حكم العدالة والتنمية، أنّ الأخير لم يتمكّن من تحقيق شيء من اسمه لتركيا، فلم يجلب لها العدالة، بل زاد الإقصاء والعزل وأضحى يشمل الأتراك أنفسهم عدا الكُرد، بذريعة الانقلاب المزعوم في العام 2016، كما أن التنمية لم تجد لنفسها درباً في هذا البلد، وهو أمر ليس بغريب فالتنمية تستند على العدل وهو ما دفع أردوغان غالباً للربط بينهما عند تأسيس حزبه، وبطبيعة الحال، من لم يستطع إقامة العدالة لن يجلب التنمية، وإن جاءت طفرة منها فستكون مؤقتة حتماً، وغالباً ستكون نهايتها وخيمة وآثارها السلبيّة طاغية على الإيجابية.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!