-
انتحار مشروع الإسلام السياسي
نعرف أن جماعة الإخوان هي التي وضعت الصياغة العصرية لمشروع الإسلام السياسي، وهو في الحقيقة مشروع لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، وعبر سنوات طويلة دافعت فيه الجماعة عن هذا المشروع، وخدعت به الآلاف بل الملايين من المسلمين، واستطاعت بالفعل أن تصل إلى الحكم في مصر لمدة عام، إلا أن وصولها للحكم كان هو التوقيع النهائي منها على فشل مشروع الإسلام السياسي الذي قادته، إذ كانت الشعارات التي رفعها أصحاب هذا المشروع ودغدغوا بها مشاعر الشباب هي أنهم يسعون إلى تديين السياسة وتخليصها من أدرانها، وتحديد مسارات أخلاقية لها، ولكن العكس هو الذي حدث، فقد قاموا بتسييس الدين، وتحويله إلى دين قومي لفئة من الناس، هو أمر مشابه لفكرة اليهود عن الإلوهية، فالله عند اليهود هو إله قومي، لهم وحدهم دون غيرهم، سيدخلهم وحدهم الجنة، وقد خلق باقي البشر لخدمة اليهود، وهي فكرة عنصرية ضخمتها الصهيونية، والصهيونية كما نعلم هي بمثابة "اليهودية السياسية" أو الحزب السياسي للدين اليهودي، وقد أساء الصهاينة لليهودية كما أساء مشروع الإسلام السياسي للإسلام، فعند مشروع الإسلام السياسي منذ عصور طويلة هناك فكرة الفرقة الناجية، والفرقة الناجية هي فكرة سياسية بامتياز تم تغطيتها بثوب إسلامي وتفصيل حديث نسبوه للنبي بشأنها، واستخدمت كل الفرق الإسلامية فكرة الفرقة الناجية لتثبت أنها هي التي ستنجو من النار دون غيرها، ليس دون غيرها من الأديان الأخرى ولكن الفرقة الناجية من بين المسلمين الذين سيكونون وقودا للنار! وكأن الله خلق الخلق كلهم للنار وخصص الجنة لفرقة بعينها، في زمن بعينه.
وقد توغل هؤلاء في دمج بعض الأفكار السياسية بالدين، ودمج بعض التجارب الإنسانية للمسلمين الأوائل في الدين نفسه، مع أن تجاربهم في الحكم والسياسة كانت محض تجارب بشرية، ولذلك فإننا نستطيع القول بيقين إن مشروع الإسلام السياسي الذي ولد في العصر الحديث على يد جماعة الإخوان عام قد انتهى وذهب إلى متحف التاريخ، وسبب ذلك أنه لم يقدم للأمة ما وعدها به، وتحوَّل إلى مشروع قائم على استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية، وقد ظن البعض أن ماحدث لمشروع الإسلام السياسي وممثلته الكبرى جماعة الإخوان هو مجرد كبوة لأن هذا المشروع تعرض عبر تاريخه الحديث لأزمات ثم تجاوزها، وهذه مغالطة لأن هذا المشروع في أزماته القديمة سواء في مصر أو سوريا أو تونس أو ليبيا أو العراق كان يدخل في خصومة مع الأنظمة والحكومات فظهر بمظهر الضحية التي يتم اضطهادها لأنها تريد الإسلام فكان أن تعاطفت معه الشعوب، وهذا التعاطف هو الذي أعطى لهذا المشروع أسبقية على المشروعات السياسية الأخرى بعد الأحداث التي أطلق عليها الغرب "الربيع العربي" ولكن بعد هذا الربيع العربي ومع تجاربهم للحكم في مصر وتونس، وصراعهم على الحكم في سوريا وغيرها، وارتمائهم في أحضان تركيا، وعمالتهم الواضحة لإنجلترا، وتبعيتهم المخزية لقطر، إذا بهم يدخلون في خصومة ليس مع الأنظمة ولكن مع الشعوب بحسب أنهم أصبحوا هم الأنظمة، كما أنهم شقوا وحدة بلادهم وفتتوها في سوريا وليبيا والعراق، وإذا نظرنا حولنا ورأينا رغبة الشعوب في تجديد الخطاب الديني، وإلحاحهم على ذلك، فإننا سنرى الوعي الجمعي للشعوب وهو ينتج مشروعا بديلا هو مشروع الإسلام الإنساني الذي يجمع ولا يفرق، ولا يدخل في خصومة مع أحد وهدفه هو عمران الإنسان، الذي يجب أن يأخذ مكانه في الحضارة الإنسانية.
ورغم أننا نعيش حاليا وسط عدة أزمات وتحديات أعتقد أنها الأكبر على مدار التاريخ، ومن هذه الأزمات التي ظهرت بقوة في بعض الأقطار العربية ما أستطيع أن أسميه "صراع الهويات" وبدلا من أن يوحدنا الوطن ويجمعنا في هوية واحدة، أو في هويات متنوعة ولكنها متعاونة ومتآلفة تكون كلها في خدمة الوطن والإنسان إذا بهذه الهويات المختلفة تجعلنا ندخل في صراعات أشبه ما تكون بصراعات البقاء أو الفناء، وكأن لا حل إلا بإبادة الآخر، وأعتقد أن الحلول الثقافية أو السياسية الفردية ليس لديها قدرة على الحل أو الاحتواء، ولكن الأمر يجب أن يقوم به كل المجتمع بكل طوائفه ومؤسساته، وذلك عن التضافر بين الجميع لإحياء مشروع الدولة الوطنية، والحقيقة أن الصراعات الحالية تهدد بقوة بقاء بعض الدول الوطنية العربية، ومن الممكن أن تُمحى هذه الدول من الجغرافية وبالتالي تُمحى من التاريخ، واليمن أمامنا خير مثال على ذلك، وليبيا وسوريا كذلك.
وإذا أردنا أن نضع خاتمة لهذا المشهد الحالي سنرى أن المشروع الصهيوني هو الوحيد الذي حقق مكسبا كبيرا من تبعيات صراع جماعة الإخوان على الحكم، لدرجة أن أصبح الإخوان الكنز الاستراتيجي لإسرائيل، وهو الذي ساعدها على تفتيت جبهة الجهاد الفلسطيني، وهو أيضا الذي قضى على المشروعات الديمقراطية الناشئة في بلادنا، وهو الذي سمح للقاعدة والدواعش بالتواجد في بلادنا، لذلك تستطيع القول إن جماعة الإخوان انتحرت عندما وصلت إلى الحكم.
ثروت الخرباوي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!