الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • المواطنة في إيران وسياسة الملالي.. نبذ للحقوق وتطييف المجتمع

المواطنة في إيران وسياسة الملالي.. نبذ للحقوق وتطييف المجتمع
رامي شفيق

في ظل نظام ولاية الفقيه بما يحمله من قيم سياسية وأيدولوجية وعقائدية، يجسد دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1979، التناقضات الكلية في فضاء الإسلام السياسي الذي يرتكز على كونه يتضمن الحلول الناجزة لكافة المشكلات والمعضلات، فضلاً عما ما تنتجه نظرية ولاية الفقيه من سيطرة مطلقة لطبقة ونخبة رجال الدين؛ إذ تحكم من خلال مرجعية شمولية تنهل من التراث الديني الخاص بها كل سمات القداسة والعصمة، التي تحميها من المسائلة والنقد وتمنع عنها المعارضة بكافة أشكالها، وذلك في مقابل فكرة سيادة الشعب والمواطنة المهدرتين التي قامت عليها وثيقة الدستور، والأخيرة، تضمن حصر مراكز القيادة لهؤلاء الفقهاء، بينما تصنع قيوداً دينية على الاعتبارات والحقوق الديمقراطية للأفراد وللمجموعات الإثنية.


مع هذه الفجوة بين تجليات ولاية الفقيه وإشكاليات بناء الدولة الحديثة، لا شك تبرز الأبعاد الثقافية والتنموية لأزمة المواطنة، مثلاً، بوصفهما تكريس لخطاب الهوية بنزعته الدينية السياسية، وانعكاس لهيمنة رجال الدين ومؤسسات الدولة ذات الطابع الأيديولوجي على مصادر الثروة، من جهة، وحق استخدام القوة لتهميش الآخر سياساً ودينياً، من جهة أخرى.


تمثل إيران دولة متعددة القوميات، العرقية والإثنية؛ إذ يصل عدد القوميات العرقية إلي ستة هي: الفارسية، والعربية، والكردية، والبلوشية، والتركمانية، والآذرية. وهناك إحصاءات متعددة ومتفاوتة تكشف عن تعداد تلك القوميات، لكن كثيراً من التقديرات يشير إلى أنه: "من بين 81 مليون هم تعداد سكان إيران، يشكل الفرس نحو 61% منهم، فيما تمثل القوميات غير الفارسية حوالي 39%. ومن بين القوميات غير الفارسية، يمثل الآذريون (16%)، والأكراد (10%)، واللور (6%)، والعرب (2%)، والتركمان (2%)، والبلوش (2%)، وأخرى (1%).


ومن الناحية المذهبية، يدين ما يقرب من 84% من السكان بالمذهب الشيعي، فيما يشكل السنة 15%، وتتوزع نسبة الـ1% الباقية بين الأرثوذكس الأرمن، واليهود والزرادشت وغيرهم".


تتمركز معظم القوميات الإيرانية على الحدود مع الدول الأخرى. فالعرب فى مناطق الجنوب والجنوب الغربي، والبلوش فى الجنوب والجنوب الشرقي، والتركمان فى الشمال والشمال الشرقي، والآذريون فى الشمال والشمال الغربي، بالإضافة إلى أجزاء فى الوسط، والأكراد فى الغرب، وقد أسهم هذا الواقع الديموغرافي في التأثير على وحدة وتماسك الدولة، وانجذاب مكوناتها لانتماءات قومية ومشروعات هوياتية خارج الحدود.


وإلى جانب التعدد العرقي والديني هناك تعددية لغوية، حيث تنتشر بإيران العديد من اللغات أهمها: الفارسية، والأذرية، والتركمانية، والبلوشية، والعربية، والمازندرانية، والغيليكية، والطوالشية، والتاتية، بيد أن اللغات الأخرى تواجه قمع في مواجهة سياسة التفريس التي يجعل منها النظام إحدى أدواته لتشكيل الهوية القومية بجانب التشيع الذي يعد الآلية الخاصة بتشكيل الهوية الدينية، بوصف الهويتين هما المشروع الذي تتبناه الدولة الإيرانية ما بعد ثورة 1979، وتخضع تحت رايتهما المجتمع.


وبالنسبة للتعددية الدينية فهناك الإسلام، ويتكون المسلمون في إيران من الشيعة، والسنّة الذين يتوزعون على: الأكراد، ويعيشون بصفة غالبة في شمال غربي إيران، والبلوش ويقطنون جنوب شرقي إيران، والتركمان ويوجدون في شمال غربي إيران، والعرب في جنوب غربي البلاد، بالإضافة إلى المسيحية، وأتباعها ينقسمون بين الأرمن الذين يقطنون طهران وأصفهان وأذربيجان الغربية، والآشوريين الذين يقطنون حول بحيرة أرومية، ثم اليهودية، ويتركز أتباعها في أصفهان، ويزد، وشيراز، وطهران، وهمدان، وكذلك الزرادشتية، ويعيش معتنقوها في طهران وكرمان وأصفهان وهمدان، وأخيراً البهائية، وتعد الدولة الإيرانية البهائيين تهديداً كبيراً، وتعترف إيران باليهودية والمسيحية، وتعد أتباعهما أهل كتاب شرعيين لهم كتبهم المقدسة وقياداتهم الدينية ومنظماتهم ومدارسهم وأماكن عبادتهم.


تبرز الطائفة السنّية في إيران، باعتبارها من بين أكبر الأقليات الدينية في إيران، حيث يبلغ عددهم حوالي خمسة عشر مليون نسمة من سكان إيران البالغ عددهم ثمانين مليون نسمة، وهي أكبر أقلية دينية في البلاد، يحظى هؤلاء السنّة، المحرومين من الناحيتين السياسية والاقتصادية، بقليل من الاهتمام نسبياً مقارنة بالأقليات الأخرى ويتركزون في المناطق الحدودية من بلوشستان في الجنوب الشرقي إلى كردستان في الشمال الغربي إلى الخليج الفارسي في الجنوب، وتتميز عن غيرها بالتنوع القومي؛ إذ إنها تتكون من قوميات أخرى، كالبلوشية والتركمانية، وهما من الأقليات الكبيرة نسبيًا. 


وعليه، فإن الخريطة الاجتماعية في إيران تتصف بالتعقيد؛ إذ منح النظام السياسي في إيران الطاقة والقدر الكافيين من الايجابية في منع المكونات الاجتماعية من التفاعل فيما بينها، أو ممارسة كافة حقوقها السياسية والاجتماعية، فضلاً عن محاولات تلك الطوائف مقاومة السياسات التمييزية والإقصائية ضدهم.


بدأت المحاولة الأولى لوضع مسودة الدستور الايراني بباريس، عندما كان الخميني يستعد لعودته إلى إيران، كان حسن حبيبي النائب الأول لرئيس الجمهورية مكلفاً بهذه المهمة، وكان عند إقامته بباريس ومعه زمرة من المثقفين الإسلاميين على إتصال وثيق بالخميني، أنجزت المسودة الأولى في نهاية يناير عام 1979، وأعيد النظر فيها من قبل لجنة تشكلت من خمسة فقهاء، بجانب حسن حبيبي، إلى أن نشرت المسودة الأولى للدستور في منتصف حزيران (يونيو) العام 1979.


بداية، لم تظهر المسودة الأولى ميلاً نحو نظرية ولاية الفقيه، بينما لم تخصص مراكز ثابتة للفقهاء الشرعيين، بيد أن الخميني شرع بعد ذلك بقليل في تضمين الدستور مبدأ ولاية الفقيه، وإجراء تعديلات عقائدية وأيدولوجية، في سياق تمرير قراءته السياسية والسلطوية حتى يكون بمقدوره القبض على زمام الحكم، ووضع هيمنته ورؤيته الشاملتين، وهو الأمر الذي اكتمل وتبلور بصورة نهائية في يناير عام 1988، عندما أعلن الخميني حكم ولاية الفقيه المطلقة.


أسست ولاية الفقية لما يمكن توصيفه سياسياً بثيوقراطية الدولة في إيران، منذ اللحظة التي اندلع فيها "اللغم" الخميني، في مسار التاريخ الذي عبر منه إلى الحكم وتدشين الثورة، يعد المسار المنطقي الذي تظهر فيه أزمة المواطنة في الدولة الإيرانية الحديثة، ويظهر معها مأزق تعيين ماهيتها وسبل ممارساتها في الواقع، بالإضافة إلى أزمتها ومدى ما تعانيه داخل إيران، الذي يتصف بتعدد قومياته وأعراقه وأديانه، وما يترتب على ذلك من تنوع في الأبعاد الثقافية والتنموية، التي تتموضع على أطراف المواطنة وأزمة القوميات، غير الفارسية؛ سيما العربية، والكردية، والبلوشية، والتركمانية، والآذرية التي تذهب تقديرات منها تبلغ نحو 39% من إجمالي عدد السكان.


 وهو الأمر الذي يطرح تحد فيما يتصل بإشكالية دمج تلك القوميات في هوية واحدة، تخضع لاعتبارات العدل والمساواة، في الحقوق والواجبات بين كافة المواطنين، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية والعرقية، في ظل دستور طائفي يرتكز على حصر كافة السلطات والحقوق داخل العقيدة الشيعية، وأصحاب المذهب الإثنى عشري، دون غيرهم من أبناء المجتمع الإيراني.


 


يعرّف الدستور الجمهورية الاسلامية على أنها دولة تخضع لسلطة رجال الدين، على أساس الوصاية والولاية الدائمة، إذ نص الدستور بأنه لا يحق الحكم إلا للفقهاء العدول الأتقياء، كما يصفهم في أدبياته، ويعرفون بحيازتهم هذه الصفات حصراً، وينبغي أن يكونوا ممن يحوزون رتبة مرجع. كما حرم الدستور المسلمين السنّة والأقليَّات العرقية الشيعية المذهب من حق رئاسة الدولة بنص المادة 115، التي تشترط في رئيس الدولة أن يكون مؤمنًا بمبادئ الثورة الإيرانية ومعتنقًا للمذهب الرسمي للبلاد، والتي قرنت في الوقت ذاته بين التشيع وجنسية الرئيس وانحداره من أصل إيراني.


 


ومن ثم، لا تتمتع الأقليات الإيرانية بحق إدارة شؤونها الذاتية ولا تتمتع بسلطة اتخاذ قرار بشأن أوضاعها، ويعود ذلك إلى ضعف تمثيلها داخل مؤسسات الدولة، حتى في الأقاليم والمحافظات التي تمثل فيها أي من هذه الأقليات أغلبية سكانية.


وإجمالاً، يمكن القول إن النظام الإيراني استطاع أن يحكم قبضته على هذا التنوع، من خلال فرض المذهب الإثنى عشري المنضوي تحت مبدأ ولاية الفقيه، بالإضافة إلى التلاعب بالتقسيمات الديموغرافية للبلاد، وإتباع سياسة إفقار الأقليات، غير الفارسية، ومنع العرب وغيرهم من القوميات الأخرى من التحدث بلغتهم، كذا، حظر ارتداء الزي المحلي الخاص بهم، وصولًا إلى حرمان السنّة من بناء مساجد خاصة بهم، في العاصمة طهران، ناهيك عن استخدام آلة البطش وتنفيذ أحكام الإعدام بحق معارضين النظام. 


 


ويعد واقع الحراك السياسي في المجتمع الإيراني، أثناء وبعد الثورة، من بين الأمور المهمة التي تشتبك مع مسار انفراد أنصار ولاية الفقيه بالحاكمية، وتقدم تفسيراً واقعياً لتأميم الخميني للمجال العام السياسي كما تظهر أعراضه ونتائجه في الاحتجاجات القائمة منذ نهاية العام 2017، والتي تعكس بدرجة كبيرة تآكل الشرعية السياسية للنظام، واتساع الفجوة بين خطابه التقليدي والجماهير، وحدوث شروخ عنيفة داخل الحواضن الاجتماعية التي يركن إليها.


رامي شفق  - كاتب وباحث مصري


 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!