الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • التباين في المصالح بين اليهود ودولة إسرائيل مقاربة أخرى للسلام

التباين في المصالح بين اليهود ودولة إسرائيل مقاربة أخرى للسلام
كمال-اللبواني

في غمرة صراعهم العسكري مع إسرائيل لم يهتم العرب في التمييز بين مصالح اليهود كشعب، وبين مصلحة إسرائيل كدولة أقامتها الحركة الصهيونية، التي استغلت ظروف اليهود الهاربين من بطش النازية، بل اعتبر العرب صراعهم مع دولة إسرائيل الناشئة هو صراع مع اليهود عامة، فقاموا بتهجير اليهود العرب إليها أيضاً، مما  أعطى الحركة الصهيونية ما تريد إقناع اليهود به، وهو أن دولتها هي المنقذ لهم من الفناء الوشيك ، وهي التعبير الوحيد (الصحيح والآمن) عن الوجود اليهودي، متجاهلة أن إقامة هذه الدولة فوق أرض فلسطين سيحرم شعب آخر من وطنه، وسيزيد حالة العداء والكراهية لليهود في أنحاء أخرى من العالم، ويخدم أهداف معاداة السامية في أوروبا: تهجير اليهود وتجميعهم في دولة معادية لجيرانها من بقية الساميين .




و بعكس العرب سعت إسرائيل لعزل الشعب الفلسطيني عن امتداده العربي ولحصر صراعها معه، ودعم نظم الاستبداد للجم الشعوب التي تعتبر نفسها معنية في هذا الصراع،  فقيام دولة إسرائيل هو في الواقع مرهون بمحي دولة  فلسطين وتشريد شعبها، طالما أن المهاجرين اليهود والفلسطينيين لا يقبلوا بمبدأ تعايش الشعبين معاً في دولة واحدة، ويصرّون على طرد الشعب الآخر، باعتبار فلسطين للعرب فقط، أو باعتبار إسرائيل دولة للشعب اليهودي فقط (مع أنه أكثر الشعوب توزعاً في العالم)، ومع انتصار اليهود في الحرب الأهلية عام 1948 واصل الفلسطينيون النضال لإزالتها، واصلت إسرائيل سعيها لقضم ومحو أي تواجد سياسي لدولة أو شبه دولة ( فلسطينية ) قابلة للحياة على ما تبقى من أرض فلسطين، عبّرت خطة ترامب للسلام عن ذلك  أعمق تعبير، والتي بالرغم من أنها تدعي مقاربات جديدة وتفكير خارج الصندوق لكنها تنكرت لكل الأسس التي يمكن أن تصنع  السلام ( قرارات مجلس الأمن، وإعلان دولة إسرائيل على حدود ال ١٩٤٨، والتي تضم عربا ويهود)  لأن تلك الخطة أريد منها تحقيق الهدف الذي يستحيل من خلاله حل الصراع (ضمان مصلحة وأمن دولة إسرائيل اليهودية الهوية على معظم أرض فلسطين)، لأن هذا الهدف يتطلب فرض الاستسلام والتشرد والذوبان على الشعب الفلسطيني، الذي يتمسك بهويته وحقوقه وأرضه التاريخية رغم هزيمته العسكرية، فالأحرى باليهود الذين تمسكوا بهويتهم عبر آلاف السنين وألا يتوقعوا غير ذلك من أبناء عمومتهم.






 وعليه، وطالما يُنظر للسلام كسلام بين الدول وليس الشعوب، فهو ممكن مع كل الدول العربية المستبدة ومشروط بإستبدادها  ما عدا فلسطين طبعاً، لأن وجود دولة إسرائيل  يتناقض جوهرياً مع وجود دولة فلسطين، بينما الحل العادل والشامل الذي يطالب به الفلسطينيون يعني عملياً تغيير طبيعة دولة إسرائيل اليهودية لصالح دولة واحدة لشعبين (خاصة إذا تضمنت عودة اللاجئين)، وهكذا تستعصي تلك المسألة على الحل ويستمر الكفاح الفلسطيني اليائس، وتستمر السياسات العدوانية من قبل الإسرائيلي الذي يراهن على استسلام أو اندثار الشعب الفلسطيني، وخذلان الدول العربية له، فحل الدولتين لشعبين  هو حل شبه مستحيل  طالما بقينا ننظر بذلك المنظار للسلام  والحدود.  والسلام الذي يتم بناؤه مع الأنظمة العربية يفاقم حالة العداء بين شعوبها وبين إسرائيل، طالما أن هذه الأنظمة هي أيضا عدوة لشعوبها،  حتى أصبح العداء لإسرائيل يستخدم دوماً للترويج الشعبي لأي مشروع سياسي داخل الدول أو عابر لها، ووسيلة بعض الأنظمة لكسب الشرعية والشعبية، التي تستخدمه أيضاً للتغطية على استبدادها وفسادها (نموذج محور المقاومة: إيران وسوريا ، وأيضا تركيا).  وهذا ما يجعل العداء بين الشعوب العربية والشعب اليهودي تجارة رابحة في كلا الطرفين، ويجعل تلك الشعوب في حيرة من أمرها بذات الوقت.






استمرار حالة العداء المغطى بسلام شكلي مع الأنظمة المستبدة الفاسدة  التي تريد التفرغ لقمع شعوبها (اتفاقيات عدم الاعتداء التي تسمى اتفاقيات سلام) يبقي حالة الصراع مستمرة بأشكال وطرق متفجرة هنا وهناك ليس أقلها ظاهرة الإرهاب والصراعات والحروب الأهلية، واستمرار اعتماد إسرائيل على قوتها كدولة للحفاظ على أمن شعبها، يتطلب منها درجة دائمة من الاستنفار الأمني والعسكري، تكلفته كبيرة ومرهقة لأي مجتمع، بينما النظر للسلام من منظار السلام بين الشعوب وقبول العيش المشترك، بغض النظر عن حدود الدولة وشكلها وقوتها (أي البحث عن استمرار صيغ التعايش التاريخي بين اليهود والعرب بالرغم من تقلبات الدول) فهو يفتح آفاقاً مختلفة جداً للحل، (يشكل بقاء العرب داخل حدود ١٩٤٨ نموذجاً لهذه الإمكانية التي يمكن توسيعها لتشمل الضفة ثم بقية العواصم العربية)، والتي تنسجم مع تاريخية تشارك العيش  بين اليهود والعرب والمسلمين في عموم المنطقة (دمشق وبغداد والإسكندرية  و إسطنبول، وصولاً لليمن والمغرب وطهران)، لا العرب ولا المسلمين ولا اليهود ينكرون هذه الشراكة العرقية والدينية والتاريخية، فالوجود اليهودي لم ينقطع منذ النبي يعقوب، ويعقوب نبي في الديانات المسيحية والإسلامية، والثقافة اليهودية عميقة الأثر في ثقافات المنطقة، والدولة العثمانية ظلت الراعية والحامية للوجود اليهودي في العالم منذ تم طردهم مع المسلمين من الأندلس، ولم تتغير تلك الحقائق إلا بظهور الحركة الصهيونية التي يمكن اعتبارها نتيجة للنزعات المعادية للسامية التي نشأت بالغرب، وأداة لتنفيذ مآربها أيضاً، لكن بوسائل أخرى.






مشروع إقامة دولة لليهود في فلسطين هو مشروع إمبريالي قبل أن يصبح يهودياً، تنبّه له نابليون بونابرت عندما هزم على أسوار عكا، مكرراً هزيمة الحملات الصليبية قبله،  وتبنته بريطانيا فيما بعد لكونه يخدم مسعاها لتفكيك الدولة العثمانية، ويشبه مشروعها للاستيطان في جنوب أفريقيا، الهادف للتخلص من فائض الطبقة العاملة التي تثير الاضطرابات، ومعها معظم الدول الأوربية التي تنتشر فيها النزعة العنصرية والنزعة المضادة للسامية، كل ذلك  وجد قبل أن تتبناه حركة يهودية يسارية غير متدينة  سميت الحركة الصهيونية، والتي كانت عملياً تتماشى مع موجة العداء للسامية التي اجتاحت أوروبا، وتبحث عن حل تصالحي معها بتشجيع الهجرة لأرض أخرى بشعارات مختلفة، وتسعى لإقامة دولة على أرض الآخرين، تعتبر بمثابة قاعدة عسكرية متقدمة في بلاد الأعداء، (وعد بلفور)  وصولاً لحرب السويس، ثم توظيفها أمريكياً في الصراع مع السوفييت  بعد حرب  ٦٧، وكل تلك الظروف قد مضى عليها الزمن، لأن إسرائيل اليوم مضطرة للاعتماد على نفسها  نتيجة التغيرات التاريخية التي حصلت في العقود الأخيرة، بدليل إدارة أوروبا ظهرها لمطالب إسرائيل وميل أمريكا المتزايد لفعل ذات الشيء، والذي لن يغطي عليه تحيز إدارة ترامب التي يبدو أنها آخر إدارة تخضع للمطالب الاسرائيلية دون تحفظ.






 


في البداية أغلب اليهود لم يكونوا مؤيدين  لمشروع الحركة الصهيونية،  والغرب الذي ساعد على قيام دولة إسرائيل لم يفعل ذلك حباً باليهود بل كرهاً بهم في غالب الأحيان، ورغبة في التخلص منهم وتهجيرهم واستخدامهم في مشاريعه العدوانية ضد بقية الساميين في المشرق، وهذا ما يسير عليه سياسيي دولة إسرائيل حتى الآن، والتي تعتبر نفسها قاعدة ( عسكرية- ديموقراطية )  للغرب (الديموقراطي - الإمبريالي) في المنطقة، ولا تستطيع أن تعترف أن هذا الغرب هو ذاته من اضطهد اليهود  وهجرهم، ليستخدم دولتهم في إضعاف خصومه، عبر زجها بصراعات معهم نيابة عنه، وهو لا يهتم  فعلاً  بأمن الشعب اليهودي، بدليل تخليه المتزايد عنه، وعودة العنصرية والنزعة المعادية للسامية من جديد، وتزايد دعمه لدول تجاهر بالعداء لإسرائيل في المنطقة كإيران لأسباب عنصرية.  في حين  يتزايد الدعم العالمي  للشعب  الفلسطيني  الذي أصبح الشعب الأكثر رعاية من قبل الأمم المتحدة، والذي يبدي تمسكه بهويته وحقوقه التي تجد جذورها في عمقه الاستراتيجي العربي والإسلامي، مما يجعل وجود وأمن الشعب اليهودي مستند أساساً -ومرهونا بشكل مطلق- بقوة دولة إسرائيل، وهذا ما يشك باستمراره ودوامه. وهو ما يضع اليهود فوق خطر وجودي في المنطقة، لأن الدول تقوم وتزدهر ثم تفسد وتنهار، ودولة إسرائيل قد دخلت مرحلة التراجع بدليل  سعي السياسيين  فيها لتعطيل القانون وعرقلة العدالة ومع ذلك يصوّت لهم الشعب.




 


إن إدراك المخاطر الوجودية التي يتعرض لها الشعب اليهودي من قبل يهود إسرائيل، وبالتالي دفعهم للتصويت لأحزاب تتبنى سياسات السلام مع الشعوب، يتطلب بشكل أساسي وقف العنف الذي يستهدفهم، ويدفعهم للتصويت للسياسيين الذين يتبنون نظرية الدولة العسكرية القوية والصراع مع الشعوب، والذين بدأوا يستغلون ذلك لمصالح أنانية، فحماس وناتانياهو هم شركاء فعلاً يتبادلون المصالح  والخدمات المشتركة،  والضحية الأساسية هي الشعب الفلسطيني في المدى القريب والشعب اليهودي في المدى الأبعد، ثم قضية السلام بين شعوب الشرق الأوسط، كون هذا الصراع يتشعب ويمتد عبر المنطقة كلها، ولكون الأنظمة العربية شريك أساسي في التعايش على حالة الحرب والطوارئ  والصراعات التي تفرض على كل الشعوب في المنطقة، بالرغم من توقيع اتفاقيات السلام بين هذه الأنظمة.  




هناك فارق  كبير بين نظرية الحدود والأمن في كلا المقاربتين، فالحدود الآمنة لا تعتمد على علو  وسماكة الجدار بل على مدى  ونوعية الأسلحة التي صارت تطال كل مكان، والأمن لا يعتمد على قدرة الذات بل على استعداد الآخر للقتال ودوافعه لذلك (العمليات الانتحارية)، لكن تخيلوا أن الحدود مزروعة بالمشاريع الاقتصادية والثقافية المشتركة، وقارنوها بالحدود المزروعة بالألغام والدبابات، لتعرفوا الفرق بين المنظورين، فملكية الأرض ليست أهم من الطريقة التي تستعمل بها.

  


لذلك فإن عملية السلام سوف تراوح في مكانها بانتظار خروج العرب من فكرة العداء لليهود ولحقهم في الوجود في المنطقة، وخروج اليهود في إسرائيل من المنظومة العقلية التي أسس لها هرتزل ووايزمن وبن غوريون  والتي ربما عبّرت في وقت ما عن مصالح ضحايا النازية، وعززت زخمها بتهجير المزيد من اليهود، لكنها تدريجياً أصبحت معاكسة لمسار التاريخ، فهم بحاجة للسلام مع جيرانهم الذي قامت إسرائيل على معاداتهم، ومضطرين للاندماج معهم بدل بناء السدود، لأن العالم يسير باتجاه الاندماج بين الدول في منظومات اقتصادية وسياسية أكبر وأوسع.




أما الاقتناع بأن بقاء اليهود في غيتو محاط بالأسوار والجيوش والصواريخ المضادة للصواريخ، والمحروس بالسلاح النووي (كذهنية أسست عليها دولة إسرائيل)، فهو استنزاف وخسارة دائمة لهم ولغيرهم من جيرانهم في المنطقة المحكومة بالعيش المشترك. بينما الانخراط  في عملية سلام حقيقي بين الشعوب يجعل من التعاون رافعة اقتصادية وحضارية تخدم جدياً شعوب المنطقة وتغير أوضاعهم جذرياً، فالسلام حاجة حقيقية للشعوب، بينما استمرار الحرب هو حاجة للدول والأنظمة الحاكمة لها، والتي تعرقل قيام السلام الحقيقي بحكم مصالحها المتباينة عن مصالح شعوبها.





كمال اللبواني - كاتب وسياسي سوري

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!