-
المحتجّون لملالي طهران: هذا عام الدم.. فليرحل
لم يكن سهلاً في ظلّ وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح الذي تشكله المنصّات الإلكترونية أن تضحى جرائم الملالي بعيدة عن الرصد والتوثيق. هذه الوسائل التي يحاول النظام في طهران ضبطها وحجبها من خلال القوانين، مثل قانون الحماية المعني بحجب الإنترنت الدولي وتوفير مواقع محلية بديلة، بينما تفشل محاولاتهم التي هي ضد طبيعة التكنولوجيا والتطور التقني وتعاكس عقولهم القمعية، تهز أركان النظام الآن.
موت فتاة على يد قوى رجعية وسلطوية تحتمي بعباءة الدين السوداء وعمامتها الغليظة يهز أركان النظام ويبعث الخوف في خلاياهم العصبية. وكما كان متوقعاً ستزداد الأمور أكثر سوءاً في المدن الإيرانية المنتفضة حالما يعود إبراهيم رئيسي من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إيران، لتبدأ سلسلة الاعتقالات والاغتيالات والقصف على المقرات العسكرية للمعارضة بازدياد.
دونما جدوى، تسعى الحكومة الإيرانية إلى حجب مواقع التواصل الاجتماعي وكذا الإنترنت، بهدف التعتيم على الأخبار بشأن الانتفاضة المندلعة في غالبية مدن إيران، وتنخرط فيها فئات وقطاعات متفاوتة. هذه الفئات التي تتضامن مع فتاة كردية من إيران لا تتجاوز عشرين ربيعاً من عمرها وقادتها الأقدار الصعبة إلى أن تكون ضحية عدوان الملالي الذين تراكم قبضاتهم الخشنة ضحايا بالآلاف على مدار أربعة عقود، وذلك من الكرد والبلوش وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية. إن الإيرانيين بحثوا في السنوات الأخيرة عن أي فرصة للتعبير عن إحباطهم بشأن الحريات الشخصية والاقتصاد والبيئة. لذا فالأمر لا يتعلق بالحجاب فقط. هناك شعور منتشر بأن المظالم العامة يتم تجاهلها عمداً.
إذاً، فالنظام الإيراني الذي يسعى دوماً من خلال ثنائية حكمه عبر الإصلاحيين والمتشددين الراديكاليين أن يؤدي أدواراً انتهازية، ويصنع سياسة براغماتية تلفيقية تراوغ الغرب وتكسب منه عدة مصالح وفي الآن ذاته تخفي خروقاتها الحقوقية، بات الآن أمام محطة غير مسبوقة بعدما حرق شرطي في شوارع طهران، على يد المحتجين، وصعد آخرون على مبنى حكومي وطاول أياديهم صور آيات الله المرشد الإيراني، علي خامنئي، وسلفه الخميني، ثم مزقوا صورهما وأزالوها من على الجداران. لم تعد ثمة قيمة رمزية أو مادية تحفظ ماء وجه هذا النظام. هناك أجيال تبحث عن الحرية ومساحاتها الخاصة. لن تنجح حيل النظام والكيل بمكيالين. فليتجرع خامنئي السم مرة أخرى كما تجرعه سلفه الخميني. انتهت اللعبة كما وصفها المتظاهرون ورددوا: "الموت لخامنئي".
يتخوّف النظام الذي يسعى إلى الوصول لصيغة نهائية في الاتفاق النووي من تأثيرات ما يحدث داخلياً على هذا الملف المعقد. كما يشعر النظام بمخاوف أخرى، لا سيما مع المشاكل الاقتصادية التي تحاصره، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك أزمة بنيوية داخل النظام تتعلق بمرض المرشد واحتمالية انتقال الولي الفقيه لآخر. هذه المعضلة التي ما تزال، بغض النظر عن سلامة الحقائق المتداولة بشأن حجم مرض المرشد من عدمه، تضع النظام الإيراني على المحك، وتجعل مستقبله السياسي أمام سؤال صعب. وعندما يكون لديهم سجل مروع في حقوق الإنسان، وتجاهل تام لسيادة القانون والإجراءات القانونية الواجبة والاستمرار في قمع مواطنيهم، فإن العزلة الدولية مع غياب الشرعية والتضامن الشعبي يجعل النظام وكأن تحت أقدامه الريح.
إلا أنه وبحسب الوقائع الحالية، من الصعب رؤية مسار للتهدئة السريعة في الوقت الحالي. تجدر الإشارة إلى أنه قبل عامين، عندما اندلعت تلك الاحتجاجات الواسعة بسبب تضاعف أسعار البنزين، قامت قوات الأمن الإيرانية بسحقها، مما أسفر عن مقتل المئات وإصابة الآلاف.
وهنا يجب ألا ننسى أنه تأتي هذه الأخبار بعد أسابيع من أمر الرئيس الإيراني المتشدد إبراهيم رئيسي بشن حملة على النساء، ودعا إلى تطبيق حقوق أكثر صرامة لقواعد اللباس الإلزامية في البلاد، والتي تلزم جميع النساء بارتداء الحجاب منذ الثورة الإسلامية عام 1979. حيث تخطط السلطات الإيرانية لاستخدام تقنية التعرف على الوجه لفرض قانون الحجاب الجديد. وقع رئيسي مرسوماً في 15 أغسطس/ آب يفرض قيوداً على لباس المرأة وينصّ على عقوبات أشد لخرق القانون الصارم، علناً وعبر الإنترنت.
تم اعتقال النساء في جميع أنحاء البلاد بعد إعلان "يوم الحجاب والعفة" الوطني في 12 يوليو. وكانت إحدى النساء هي سيبيده راشنو، وهي كاتبة وفنانة، ورد أنها تعرضت للضرب والتعذيب في الحجز قبل تقديم اعتذار قسري على شاشة التلفزيون.
تكشف المظاهرات الإيرانية مرة أخرى عن نظام أزيل من شعبه، فبسبب مقتل ژينا أميني، تظهر الاحتجاجات الشجاعة من قبل الإيرانيين والكرد بالتحديد أنهم شعب يخضع لموقف سياسي لا يدعمونه بتاتاً.
بعد عقود من التقل والانتهاكات بحق الإيرانيين ذاتهم، لم تقنع كلمة تصريحات -التي نفت أي "اتصال جسدي" بين الشرطة ومهسا أميني- أحداً. فلم يتم إجراء تشريح للجثة، ولا تقديم أية أدلة عن القتل المتعمد بحقها. فكان رد العديد من الإيرانيين، ومعظمهم من الشباب عندما بلغ الإحباط ذروته، الخروج إلى الشوارع. حيث تأتي هذه الحركة بعد ثلاث سنوات من (أعمال الشغب) الناجمة عن زيادة أسعار الوقود في عام 2019. وقتها تم قمعها دون رحمة من قبل السلطات الإيرانية. وقتل آنذاك أكثر من 300 شخص في غضون ثلاثة أيام، وفقاً لمنظمات حقوق الإنسان الدولية.
بينما تغرق إيران مرة أخرى في الركود الاقتصادي، ويرجع ذلك إلى حد كبير للعقوبات الدولية المرتبطة بطموحاتها النووية. قال رئيسي إنه من الضروري اتخاذ "إجراءات وقائية" لمنع "أعداء إيران والإسلام" من الإضرار "بقيم المجتمع وأسسه الدينية".
كانت هذه خطوة وحشية إلى الوراء بعد التساهل النسبي لسلفه حسن روحاني خلال فترة ولايته. في عام 2018، تبرّأ روحاني من قوة الشرطة التي تم تجريمها اليوم، ووبخهم على "العدوانية" التي أبرزها مقطع فيديو مشترك على نطاق واسع هاجم فيه ثلاثة من أعضائها بعنف امرأة متهمة بارتداء حجابها بطريقة تعتبر "غير لائقة".
بالإضافة إلى إظهار شجاعة الإيرانيين العاديين الذين يتحدون قوات الأمن المعروفة بوحشيتها، تكشف المظاهرات الأخيرة مرة أخرى عن نظام تمت إزالته من شعبه، يركز بالكامل على بقائه، وشعب بدون ممثلين منتخبين بحرية، يخضعون لمناصب سياسية لا يدعمونها.
في الثورة الإيرانية عام 1979، حوّل الأصوليون الدينيون بنيرانهم البلاد إلى ثيوقراطية إسلامية معادية لأمريكا. اليوم ما تزال إيران -التي ما زال قائدها أحد (الثوار) من الجيل الأول، الزعيم الأعلى البالغ من العمر 83 عاماً آية الله علي خامنئي، الذي حكم منذ عام 1989- معضلة حقيقة تواجه المنطقة بأكملها.
من بين أسباب طول ولاية خامنئي هو أنه يحكم إيران مع فرط ووحشية رجل يعتقد أنه أكبر قوة عظمى في العالم، يطمح إلى أسلمته. بموجب قيادة خامنئي، أصبحت (المناهضة لأمريكا) أمراً أساسياً للهوية الثورية الإيرانية، محاولاً بتلك الأفكار غزو بعض الدول العربية من خلال ميليشياته والمشاركة أو الضغط على الحياة السياسية والعسكرية في تلك الدول.
حاول الخامنئي خلال فترات حكمه بشكل مباشر أو عن بعد، إذابة القوى المعارضة له في دول الجوار وأوروبا، بالتوازي مع انتشار قواته عسكرياً وسياسياً في عدة دول عربية، كسوريا ولبنان واليمن والعراق. إلا أن تلك القوة الحالمة التي يحسها الخامنئي أثرت على الاقتصاد الداخلي وعلى تفكك المجتمعات الإيرانية وتزمتها أكثر فأكثر اتجاه هذه السلطة التي تركض وراء أحلامها الجيواستراتيجية تاركة الشعوب غارقة في بحر من الفساد والفقر والقبضة الأمنية التي تتحكم بحياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية.
إن ما يجري هناك اليوم هو نتيجة واضحة لعشرات الأعوام من القهر والفقر والفساد، والقمع الممارس على النساء والرجال، فالقضية تعد أكثر من الحجاب والمطالبة بوقف ممارسات شرطة الأخلاق، القضية الأولى هي ذكورية هذه السلطة وعنجهيتها وممارستها كافة أنواع الانتهاكات بحق النساء والرجال، باسم الدين تارة، والأمن القومي تارة أخرى. من هنا علينا جميعاً أن نعلم أن هذه الانتفاضة هي انتفاضة الأخلاق اتجاه نظام ديكتاتوري أغرق المنطقة بالقتل والكراهية.
ليفانت - شيار خليل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!