الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
المثقف والسلطة والربيع الدامي
جاد الله الجباعي

علاقة المثقَّف بالسُّلْطة علاقة شائكة وملتبسة بين طرفي نقيض على الدوام، وسؤال إشكالي قديم حديث، وما ضرورة إعادة طرح السؤال والبحث في هذه العلاقة إلا لتعيين حدودها، والبحث عن آلية تعطي المثقف الدور المنوط به في خدمة الحقيقة وعالم الإنسان، فالثقافة تعني التجديد والبحث عما هو أكثر سعادة وإنسانيّة للإنسان، أما السُّلْطة ففي الغالب هي تجميد الوعي عند نقطة ما بغية الحفاظ على وضع قائم. 


يبدو مفهوم “المثقف/ الثقافة” ظاهرياً واضح الدلالة ومألوف الوقع في ذهن المتكلم والمتلقّي على السواء، بحكم عمومية المفهوم من جهة، والانتشار الواسع لاستعماله حديثاً من جهة أخرى، إلا أنّ مفهوم المثقف وصور تمثيله غداً أكثر غموضاً والتباساً مما نظن، وربما يسري الأمر على مفاهيم أخرى، مثل “الحرية” و”الدولة”، خاصة بعد ثورات الربيع العربي وفي غمارها، وبشكل أكثر تحديداً وخصوصية فيما آل إليه ربيعنا الدامي، نحن السوريين. وما الاختلاف الحاصل حول الدلالة الاجتماعية لتلك المفاهيم إلا تعبير عن الاختلاف الطبيعي بين الأفراد ونوع ثقافتهم، شفهية أم كتابية من جهة، والانفصال النسبي بين الحقلين أو المجالين، الخاص والعام، من جهة أخرى، أي مجال العاملين في حقول العلم النظري وتخصصاته المختلفة والمجال الاجتماعي العام، والذي تزداد شقته اتّساعاً في المجتمعات المتخلّفة.


فمن هو المثقف إذن؟ وما هي صور تمثيله، وما هو دوره الاجتماعي والتاريخي، وما نوع ومحددات العلاقة بين المثقف والسلطة، وبالتالي بين الثقافة والسياسة؟


أحصى “إدوارد تايلر”، مثلاً، أكثر من مئتي تعريف لمعنى “الثقافة”، قبل أن يخلص إلى تعريفها بأنّها: “ذلك الكل المعقد المتضمن المعارف والمعتقدات والفنون، الآداب واللغة والأعراف، القوانين، العادات، والمنجزات الأخرى، التي عملها الإنسان كفرد أو مجتمع وتراكمت على مر الأجيال”، ومثل ذلك في تعدد تعريفات المثقف، حيث تتأثر الدلالة الاجتماعية للكلمة، “بمعنى الثقافة وصورة المثقف في ذهن المتكلم، ويتجلّى ذلك في الأحكام والصفات التي يطلقها متكلمون مختلفون على المثقف والموقف الذي يتّخذونه منه”.


فحتى الأمس، كان البريطانيون يطلقون كلمة “مثقف” على الشخص المعني مشفوعة بمسحة من التندّر أو الهزء أحياناً، حسبما يضمر المتكلم من موقف إزاء الشخص المعني بالكلام، ولا يختلف الأمر عن ذلك إزاء المثقف في مجتمعاتنا حتى اليوم، بل إزاء الثقافة وقيم الحداثة وعلوم النظر وما فيها من جديد يقوّض الراسخ من المعارف والعادات، ويجعل صاحبه على مسافة ما من المجتمع. ولعل في ذلك ملمحاً ذا معنى: أولم يقم الناس من خلال ذلك بتعريف المثقف بفطرتهم الطبيعية؟ أليست هذه المسافة بين المثقف ومجتمعه هي التي ترسم تخوم العلاقة بينه وبين السلطة الرمزية والمعنوية للمجتمع والسلطة السياسية بكونها علاقة قوة، وتحدد بالتالي نوع الانتماء وموقع المثقف وتأثيره وفاعليته والحالة المدنية للمجتمع ونوع السلطة السياسية أيضاً؟


لقد أصابت مجتمعاتنا شيئاً من التحديث والتطور منذ عصر النهضة حتى اليوم، من خلال إسهام المثقفين في عمليات المثاقفة والاطلاع والترجمة عن الآداب والعلوم الغربية والفكر النقدي لعصر الأنوار، وإن بقي هشّاً وهامشياً ولم يستطع خلخلة البنى التقليدية الأبوية أو البطركية للسلطة والمجتمع، إذ بقي المثقف العربي بالصفة التي ينطبق عليها تعريف رايموند وليامز “أي من يقتصر نشاطه على كل ما هو خاص بالذهن أو العقل أو الفكر المنطقي، في مقابل العاطفة أو الشعور والإحساس”. وبقي المثقف حبيس تلك الدائرة ولم يستطع الذهاب عميقاً في نقد السلطة أو النزعة الإمبريالية في الثقافة والتفكير أو تجاوز عقدة الهوية إزاء الآخر والأقليات القومية في مجتمعه المحلي، بشكل خاص، والتي هي ميزات فكر الحداثة في الغرب أيضاً، كما يرصد ذلك إدوارد سعيد في مجمل أبحاثه وخاصة “الاستشراق”. كما لم يستطع تبني قضية الحرية والنزعة الإنسانوية والعقلانية والعلمانية بالنَفس “البرموثيوسي” الذي ساد في الغرب، رغم الفتوحات الفردية المهمة لبعض المثقفين. ثم دخلت المجتمعات العربية في مراحل ما بعد الاستقلال واستكمال بناء مؤسسات الدولة، خاصة مؤسسة التعليم والمعارف ومؤسسة السلطة والجيش الوطني، وتأسيس الأحزاب والتكتلات السياسية التي لعب المثقفون الدور الأكبر فيها رغم هيمنة الزعامات الاجتماعية التقليدية عليها.


كما يعرض ذلك “د. رضوان زيادة” في كتابه “المثقف ضد السلطة” في سورية، و”د. رهبة أسوادي حسين” في كتابها “المثقف والسلطة في العراق”، وكانت مفاعيل الفكر الماركسي قد بدأت تأثيرها قبل ذلك بقليل حيث تداخل مفهوم “الإنتلجنتسا ودلالاته الاجتماعية والسياسية في الفكر الاشتراكي على صورة المثقف العربي، خلافاً للصورة القديمة التي يقصرها إدوارد سعيد على كبار الكتاب والفلاسفة. ومن ثم تطعمت بأفكار المناضل الماركسي الإيطالي “غرامشي”، ومقولة “المثقف العضوي” مع نفحة تطرّف يساري لتشمل كل من حاز قدراً من التعليم أو على “وعي اجتماعي” أو “وعي سياسي”، وهي الصورة الباقية حتى الآن بعد انتكاسة المثقفين وسيطرة العسكر على السلطة والحكم ونفي المثقف أو تدجينه في الأطر السياسية والحزبية الضيقة ومحافل السلطان، واستعادة المجتمع لأطره التقليدية.


الربيع الدامي- شقاء الوعي


للمثقف صفتان رئيستان كما يرى هشام شرابي “الأولى هي الوعي الاجتماعي الكلي بقضايا المجتمع، من منطلق بناء فكري محكم، والثانية هي الدور الاجتماعي الذي يلعبه بوعيه ونظرته”، أي أنّ الدور الاجتماعي للمثقف هو حصيلة وعيه الاجتماعي، وهو مشروط به. وعليه يكون السؤال: ما الدور الاجتماعي للمثقف في ثورات الربيع العربي؟ وبصيغة أخرى، هل حاز المثقف العربي وعياً اجتماعياً يؤهله للعب دور اجتماعي فاعل ومميز؟ وما هو نوع العلاقة بين المثقف والسلطة؟


علاقة المثقف بالسلطة أساساً هي علاقة الفرد بالسلطة والمجتمع، وبنوع تلك العلاقة تتحدّد طبيعة السلطة ونوعها ونوع ولاء الأفراد الغريزي الفطري أو الاختياري العقلاني والأخلاقي، والمستوى الحضاري للمجتمع، والدور المتاح للمثقف كفرد تميز بخاصية الثقافة والمعرفة والوعي. فإذا كان مثقف ما بعد الحداثة في الغرب بات ينتقد “حضارته” التي تأسست على الثقافة والحرب حسب مطلع “ميلان كونديرا” في روايته الخلود “فما أن توقفت الحرب حتى سقطت الثقافة”. فكيف يكون الحال في “حضارة” تأسست على الحرب والحرب، والحرب ما زالت قائمة ونارها متأججة حتى الآن؟


لقد دخلت بلداننا في مرحلة “تحديث” الاستبداد مذ سيطر العسكر على الحكم، وهيمنت السلطة على معظم أو جميع مفاصل القوة والثروة في الدولة والمجتمع، فمحقت الثقافة والتعليم وأقصت السياسة وأفسدت مؤسساتها وذررت المجتمع وحولت المواطنين إلى جماهير تدور في حلقة السلطة بعلاقة جذب أو نبذ، مما عزّز فيهم روح الانتماء الغريزي والفطري لأطر المجتمع التقليدي كأطر وحيدة للحماية والوجود، حسب تحليل “حنة أرندت” للتوتاليتاريا، ووزّعت المثقفين ما بين تهميش أو نفي أو سجن أو طرد، إلا من لم يدخل من الباب العسير فربح العالم وخسر نفسه، أولئك هم حظوة السلطان وصنوج الحاكم و”شعراء القبيلة”، وإلى غير هؤلاء يتوجّه النقد. فالمثقف الحقيقي لا تحتويه سلطة غير سلطة الحقيقة النسبية المتغيرة على الدوام، وموقفه على حال التعارض مع السلطة على طول الوقت، لأنّ سعيه نحو التغيير والحركة وطلب الحقيقة، في حين تمثّل السلطة منطق الثبات والحفاظ على الوضع القائم والأيديولوجيا.


هذا الواقع المرير دفع بمثقفين شتاتاً في اتجاهات ثلاث غير جهة الشمال لمن أتيح له الاختيار -أي جهة المنفى الاختياري- فقد ارتضى أفراد الجهة الأولى العمل الهادئ على الهامش في إنتاج الثقافة، كعمل إضافي، وأنتجوا خطاباً غير مرغوب، وأدباً غير مطلوب، وفنوناً تتقن أساليب التورية والرمز، لمجتمع لا يقرأ وإذا قرأ لا يجيد القراءة، أو انضووا في مؤسسات العمل الأكاديمي الرسمي بحكم غياب البدائل المتاحة، كمراكز البحث المستقلة أو مؤسسات ومنظمات وهيئات المجتمع المدني، واتسم الخطاب النقدي لهذه الفئة بأفقه الإنساني والعقلاني والتوجه نحو نقد الذات حتى حدود جلد الذات.


أما مثقفو الجهة الثانية، وجلّهم ممن حمل تأثيرات الفكر القومي أو الماركسي والاشتراكي المسرف بالتفاؤل والإرادَوية في تحقيق مقولة “غرامشي” في”المثقف العضوي”، فانخرطوا في الأطر الحزبية الضيقة المتاحة، ليكتسب المثقف منهم بدءاً صفة المثقف “السياسي”، ثم السياسي “المثقف”، ثم “السياسي” بدون الثقافة والسياسة بعد سلسلة الهزائم المتوالية للمشروع القومي العربي، ومن ثم انهيار المعسكر الاشتراكي وانتكاس التجربة السوفيتية. وبقي المثقف على ارتباط أخلاقي بالعمل الوطني والشأن العام، بوضع لا يقل هامشية عن وضع مثقف الجهة الأولى، وهيمنت النزعة الأيديولوجية على خطابه فتحوّل عن خطابه النقدي نحو خطاب تسويغي وتبريري للذات المهزومة وهجومي تجاه الآخر، فأنتج خطاباً موازياً لخطاب السلطة مدموغاً بنزعة إمبريالية مشفوعة بمرارة الشعور بالانتهاك القومي والعجز، شأنه شأن خطاب السلطة، وغالباً بلغته ومفرداته وإن تحوَّل عن مسلماته الأيديولوجية فبمقتضى الحاجة الراهنة وواقع الحال لا بفعل المراجعة والنقد.


ولعل مثقف الجهة الثالثة، المثقف الداعية أو المثقف المستريح، هو الأوفر حظاً بين الجميع، فعلمه راسخ ونصه ثابت وخطابه حاشية على متن لا يحتاج إلى مراجعة ولا نقد، وربما هو اليوم أكثر انسجاماً مع نفسه في الخطاب السلفي المعاصر الذي تنضوي تحته الأيديولوجيات الإسلامية التي توصف بالأصولية، والسلفيون المعاصرون وبعض الدعاة الإسلاميين الذين يمثلون الموقف الإسلامي الرسمي المهادن، والذين يقفون إلى جانب الاستبداد ويشرّعون سلطة الغلبة ويبررون الظلم بخطاب الكراهية ويؤججون نار الحرب.


تُجمع الكثير من الآراء اليوم على غياب الدور الفاعل للمثقف وعدم قدرته على تقديم القراءة المناسبة للحدث، وتراجع صورة المثقف أمام صورة السياسي أو صورة “المثقف العضوي” المبالغ فيها. فهل يستعيد المثقف دوره الحقيقي وصورته؟.. سيستعيد المثقف دورة ومكانته عندما تتوقف الحرب، لكن الحرب لن تتوقف ما لم يستعد المثقف دوره ومكانته، وتِلك هي المشكلة.. فمن أين نبدأ؟


ليفانت – جاد الله جباعي  

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!