-
اللامبالاةُ.. سلاحُ مَنْ لا سلاحَ له
قبل أن يصبحَ الحالُ خارجَ نطاق الاحتمال، كان سلاحُ السوريين الوحيد، وبغيةَ تجاوزِ الأوضاع المعيشية الخانقة، ولو شكلياً، التهكّمَ على الأوضاعِ العامة، في محاولةٍ لإذلالِ المتسبّب بكلّ هذا القهر، والنيلِ من كبريائه وعجرفته، وكانتِ الموادُ التي تستدعي التهكّمَ كثيرة، بدءاً بالحلمِ المستحيلِ لزيادةِ الرواتبِ الشهرية.
مروراً بالانخفاضِ المرعبِ لقيمةِ الليرة السورية، ووعودِ الحكومةِ بتحسينِ الوضعِ المعيشي، والارتفاع الجنونيّ لأسعارِ الموادِ الغذائية، وليس نهاية بالأزمةِ المحيّرة للمحروقاتِ والخبزِ والأدوية… إلخ، لذا غدتِ السخريةُ سلاحاً معنوياً، ومن العيارِ الثقيلِ، للنيلِ من مكانةِ، (الآمر الناهي)، الذي يكدّره حتّى المُزاح البريء، لكن مع الوقت انخفضَ المزاجُ الساخرُ العام، لتسودَ لعنةُ اللامبالاة، وكأنّ كلّ شيء يحصلُ في البلاد، يكاد لا يعني هذا الشعب (الصامت)، هو المؤمن أنّه مجرّدُ قطيعٍ اجتماعي، يُساق كيفما تشاءُ أهواءُ نظامِ الحكمِ الاستبدادي، وهذه اللامبالاة، التي باتت السلاحَ الوحيد بيدِ البسطاء، لا تعكس فقط كميةَ البؤس التي يعيشها هؤلاء في ظلّ الأزماتِ الاقتصاديةِ المتوالية، إنما تعكسُ أيضاً درجةَ وعيهم بأسبابِ المشكلاتِ التي يعانوا منها، والتي لم تعدْ تَخفى على أحد.
وكلّ ما يجري على الأرضِ السورية يبقى خارجَ اهتمامِ السوريين، طالما أنّه لا يطال، مباشرةً، قوتَ يومهم الرئيسي، فلا يهمّهم قيامَ وزارةِ المالية السورية بالحجزِ الاحتياطيّ على الأموالِ المنقولةِ، وغير المنقولة العائدة، لمحافظ ريف دمشق المعفيّ من مهامه، إضافةً إلى زوجتهِ وأولاده، بعدما أصدرَ الرئيسُ السوري مرسوماً بتعيينِ (معتز أبو النصر جمران) بديلاً له، بقدر ما يهمّهم كيفيةَ التعاملِ مع الراتب الشحيح، الذي لا يتجاوزُ ثلاثين دولاراً في أحسنِ الأحوال، ولا تهمّهم المسرحيةَ (الطلابية) المُضحكة لقيامِ وزيري الزراعةِ والتربيةِ بمشاركةِ عددٍ من الطلابِ، بزراعةِ ثلاثين دونماً بمحصولِ القمحِ في أرضِ معهدِ التعليمِ الريفي في ريف دمشق، لتعريفِ الطلابِ بقيمةِ هذا المُنتَج الاستراتيجي وإشراكهم في زراعته، بقدر ما يهمّهم الحصولَ على (ربطة خبز)، (بكرامةٍ)، ووجهُ ذاك العجوز الذي تعرّض للدفعِ أمام فرنِ الخبز ليقعَ أرضاً مضرّجاً بدماءِ كلّ السوريين المغلوبِ على أمرهم، لا يكادُ يغيبُ عن هزائمهم اليومية.
ولا يهمّهم، بالطبع، مؤتمرَ اللاجئين ووعوده (الواثقة) بتوفيرِ حياةٍ (كريمةٍ) للسوريين المهجّرين، بعد عودتهم (لحضنِ الوطن)، في المقابل لا يهمّهم وفاةَ وزير الخارجية، ولا تعيينَ (فيصل المقداد) خلفاً له، بقدر ما يهمّهم تهريبَ أولادهم خارجَ البلاد، خوفاً من الخدمةِ الإلزامية التي ستجرّهم، لا بدّ، إلى حربٍ لا ترحم الفقراء، ولا يهمّهم إعلانَ (الأمانة السورية للتنمية) أنّها بدأتْ بتوزيعِ تبرّعاتٍ ماليةٍ على المتضرّرين من الحرائق، التي شهدتها محافظاتُ حمص وطرطوس واللاذقية، رغم أنّ لامبالاة الحكومةِ، آنذاك، ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في عدم السيطرة على النيران، والتي أدّتْ إلى مقتلِ ثلاثةِ أشخاص، واحتراقِ نحو مليونَيّ شجرة، حيث تمَّ عند تقديمِ التعويضاتِ المالية، توزيعَ غراسِ الزيتون على الأهالي، الذين لن تهمّهم، بالتأكيد، الرسالةَ (الرقيقة) بخطّ يدِ (أسماء الأسد) التي رُبطت بكلّ غرسةٍ، بقدرِ المال (القليل) الذي قُدّم لهم، كتعويض، نعم، لا يهمّهم قيامَ زوجةِ الرئيس، بجمعِ الحاضنةِ الشعبيةِ للنظام حولها، بعد انتصارها على ابن خالِ زوجها، (رامي مخلوف)، واستبعاده من الواجهةِ الاقتصاديةِ للنظامِ السوري، بقدر ما يهمّهم تأمينَ مؤونةِ (زيت الزيتون)، الذي زاد سعرُ الكيلو منه أضعافاً مضاعفة عما كان عليه قبل نشوبِ الحرائق، التي جاءتْ في مواسم الزيتون التي تشكّل مصدرَ رزقٍ وحياةٍ لكثيرٍ من السوريين، وكأنها موجّهة لزيادةِ فقرهم، بغية زيادةِ الضغطِ عليهم، ليبقوا تابعين وموالين ومطأطَئي الرأس.
كذلك لا يهمّ السوريون مواصلةَ روسيا السيطرة على ما تبقّى من ثرواتِ البلاد النفطية، بعد قيامِ شركتين روسيتين، هما (ميركوري) و(فيلادا)، بفتحِ فرعين لهما في منطقةِ الشعلان، بهدفِ التنقيبِ عن النفطِ وإنتاجه، بعد أنْ حصلتْ على موافقةِ وزارةِ الاقتصاد والتجارةِ الخارجية، وقبلها افتتحت الشركةُ الروسية (إس تي جي تكنولوجي) فرعاً لها بدمشق، بهدفِ تقديمِ خدماتٍ تتعلّقُ بمجالاتِ النفطِ والغازِ والثرواتِ المعدنية، ولا يهمّهم كذلك استثمارَ شركة (ستروي ترانس غاز) الروسية لمعاملِ (الشركة العامة للأسمدة) في حمص، لمدةِ أربعين عاماً، بحجةِ أنّ روسيا تسهمُ بإحياءِ وتطويرِ الاقتصاد السوري، في فترة ما بعد الحرب، بقدر ما يهمّهم تحنّنَ وزير الكهرباء ليهبهم دقائقَ إضافية من الإنارةِ، تقنعهم أنّهم ليسوا من سكانِ الكهوفِ الحجريةِ المظلمة.
ولا يهمّ السوريون، بالطبع، ما يحصلُ في شمالِ البلاد، وكأنّ هذا الجزء بات منفصلاً عن الكيانِ السوري، فما يعنيهم مداهمةَ قوى عسكرية تابعة لتنظيم (قسد)، مدعومة بطيرانِ التحالفِ الأمريكي، لعدّة قرى واعتقالِ الأبرياء، دون توجيه أيّ تهمة تُذكر، ليستولي التنظيمُ على عددٍ كبير من المنازل في مدينةِ الحسكة، والتي تشرفُ على نقاطهِ العسكريةِ وقواعده، وما يعنيهم تمدّدَ الاحتلالِ التركي، بعد إنشاءِ الجيشِ التركي قاعدةٍ عسكريةٍ جديدة له، في منطقةِ جبل الزاوية جنوبي محافظةِ ادلب، حيث أكدتْ مصادرُ محلية أنّ نحو أربعين عربةً عسكريةً من ضمنها (5) دبابات وراجمات صواريخ، تمركزتْ في منطقة (المسبح)، جنوب غربي بلدة البارة، ليرتفعَ عددُ القواعد التركية إلى (17) قاعدة ونقطة، موزّعة على (15) قرية وبلدة في جبل الزاوية، ما يعنيهم كلّ هذا، بينما يواجهون مجاعةً قاتلة، نظراً للارتفاعِ الخرافيّ للأسعار، ودون أيّ رقابةٍ حكومية، ورغم ذلك ما زالوا يتندّرون ساخرين، من فرطِ اللامبالاة، أنّ أهلَ الكهف ناموا (300) سنة، وعندما استيقظوا تفاجؤوا بالأسعار، أما الشعب السوري فيتفاجأ بالأسعارِ بعد كلّ قيلولة.
ولا يهمّهم، أيضاً، التصريحاتِ الرومانسية لوزيرِ النفط (بسام طعمة)، الذي أكد أنّ سوريا خلال بضعة أشهر، لن تكونَ محتاجةً لاستيرادِ أيّ مشتقاتٍ نفطية، باستثناء كمياتٍ بسيطةٍ من الغازِ المنزلي، ربما هو لا يعلم أنّ (أنبوبة الغاز) باتتِ الحلمَ الأكبرَ للسوريين، هذه الأيام، حتى لُقّبت (بالعروس المشتهاة)، لذا من الطبيعي أن يستغربَ الوزيرُ (طعمة)، المنفصل عن الواقعِ أسوةً ببقيةِ الوزراء، من تبعيةِ (شركة محروقات) لوزارةِ النفط، وهي قطاع تمويني يهتمُّ بالتوزيع، وتخضعُ لقانونِ التموين، ليؤكدَ أنّ الوزارةَ لا تبيع أو تشتري النفط والمشتقات، بل تُنتج وتكرّر فقط، والمعلومُ أنّ سوريا تحتاجُ يومياً (146) ألف برميل نفط خام، بينما المُنتج حالياً هو (24) ألف
برميل، أي أنّ الفجوةَ اليومية (122) ألف برميل، لذا تعاني البلاد من أزماتِ انقطاعٍ مستمرٍ لمختلف المشتقات النفطية، بالمقابل لا يهمّ السوريّ كلّ هذه الأرقام، بقدر ما يهمّه القهر المتجسّد في المشهد الدرامي الشهير (لمدام فاتن) وهي تقومُ بتوبيخِ أبناء بلدها المسحوقين، الذين تنتمي لهم أيضاً، فقط لأنّهم طالبوا بحصتهم التموينية الشهرية، كما لا يهمّه إصدارَ مصرفِ سورية المركزي لما يُسمى (نشرة البدلات اليومية)، بتطبيقِ التعديلاتِ على دفعِ خدماتِ البدلِ للخدمةِ الإلزامية، ومنها بطبيعةِ الحال الخدمة الثابتة والطيّارين، بعدما حدّد المصرفُ سعرَ صرف الدولار، وفق نشرته اليومية، بقيمةِ (1256) ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، في الوقت الذي حدّدَ به سعرَ صرفِ الدولار الأمريكي ضمن (نشرة البدلات) بـقيمةِ (2550) ليرة سورية، بينما يهمّه، وهو الموجوعُ حتّى النخاع، الترحّمَ على أيامٍ كانت أقلّ وطأة من حربٍ طاحنةٍ أكلتِ الفقراءَ، الفقراءَ، ولا أحد غيرهم.
ليفانت : عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!