-
القيّمة الفنية فريدة يوسف: تأثرت بلوحات كلود مونيه الانطباعية في أسلوب عملي بمهنة الكيورايتور
لم يُخلق البشر بعقل واعٍ ولا واعٍ والباطن الذي بينهما، إنه العقل فقط، ولطالما أكد علماء النفس على هذه التقسيمات، وتعاملوا معها على أنها الحالة الطبيعية، فاختل توازن الناس الداخلي، وانقسموا معه إلى شخصيات متعددة، تمثل كل واحدة منها طبقة من طبقات العقل المنقسم المزعوم.
هذه الانقسامات لم تتولد من تلقاء نفسها، فالطفل والطفلة المولودان حديثاً لا يعرفان عنها شيئاً، إنهما على تماس مع ما هو شاسع وغير محدود، ثم يأتي التدخل الخارجي الذي يحتوي على الممارسات والتجارب والتلقين، يرافق ذلك المشاعر المطابقة لكل حالة، فيبدأ العقل بالتعرف إلى المساحة وإلى الاحتكاك بالزمن، فتتشكل الحدود الخارجية، ثم تظهر الحدود الفرعية في الداخل مُكَونة مساحات أصغر وأضيق، وتنطلق عملية انقسام العقل بنفسه وعلى نفسه، مشكلاً ما يُسمى بالوعي واللاوعي وما هو باطن.
هنا تنسحب المشاعر التي تعبر عن الذكريات بحنينها وأحزانها وآمالها إلى الأجزاء المخصصة لها، ويزداد المخزون اتساعاً وتعقيداً في كل مرة يتعرض فيها العقل للرض والإحباط، فيتحدد بالزمان والمكان السيكولوجيين، ويعلق في شباكهما، وفي حين أن الزمان والمكان الفيزيائيين يتقدمان بحركة أمامية من دون توقف، فإن العقل يدور في دوامة الماضي وما فيه من تعلق من دون أن يعي أنه في حركة عكسية، فيتشتت بين زمنه المفتعل والزمن الخارجي، فتقبض عليه المعاناة، ويعيش في صراع دائم، ويقتنع أن الحياة على هذا المنوال؛ مجرد خط زمني بدايته ونهايته في الماضي.
* هل لنا أن نتعرف إليكِ؟ أين نشأت؟ وما الذي شكّل توجهك الفني؟
وُلدت في بلجيكا عام 1993، البلد المعروف ببلداته الحضرية العائدة إلى القرون الوسطى وعمارة عصر النهضة، وطابعه الخاص بسبب صغر مساحته، وكثرة متاحفه الفنية، والفعاليات المكثفة المرتبطة بهذا الوسط، وتقليده الفني الذي يعود إلى ما قبل تأسيس الدولة الحالية في عام 1830، كما تفتحت عيني في بلجيكا على تنوع كبير في أنماط الرسم والنحت، فمنذ الخامسة من عمري اعتدت أن أرتاد متحف الفنان رينيه ماغريت، صاحب اللوحات المثيرة للتساؤلات التي تشبه القصص المصورة لكن بمحتوى عميق وطرح متناقض.
انتقلت مع أسرتي إلى فرنسا أواخر التسعينيات، ودخلت إلى المدرسة الابتدائية، كانت رحلات المتاحف من الأساليب التعليمية المقررة هناك، فتعرفت في سن مبكرة إلى الفن الانطباعي ورائده كلود مونيه المعروف برسم لوحات كبيرة الحجم، فكنت أشعر وأنا تأملها كأنني أغرق بداخلها، وقد أثرت هذه الذاكرة البصرية على أسلوب عملي في التنسيق، فبت أميل إلى خلق حكاية بمفهومي الخاص، كما كان مونيه يفعل بتقنياته وانطباعاته التصويرية لتلك اللحظات سريعة الزوال التي كان يلتقطها في الطبيعة.
رافقتني لوحات هذا الفنان بعد الاستقرار في مصر عام 2001، خلال زياراتي المتكررة إلى متحف أسسه محمد محمود خليل في حي الجيزة بالقاهرة، وجمع فيه مقتنيات وأعمال فنية من القرنين التاسع عشر والعشرين، كان من بينها "الجسر الياباني" و"زنابق الماء" لمونيه، كنت أشعر أنه يدعوني إلى عالم مختلف يخلقه بتصور خاص له عن الواقع، وليس من الصورة التي يراها بعينيه، إنه بالنسبة إليّ من أوائل الفنانين الذين جردوا الواقع وشجعنا على رؤيته كانطباع وليس حقيقة، وهذه نقلة فلسفية وفكرية هامة لأنها تجعلنا نفكر فيما نراه، وقد طبقت ذلك في المعرض الأخير "خرج والمفروض يعد"، بأن نقلنا ما ترسب في أذهان الناس من حنين إلى أيام هجرة المصريين إلى الخليج في التسعينيات للعمل هناك، إلى تساؤل تجريدي يُناقش فيما اعُتبر شعوراً جمعياً.
درست التاريخ والفلسفة في مصر، وتخرجت عام 2015، ثم سافرت إلى إنجلترا للحصول على ماجستير في فلسفة الفن والعمارة، وبعد انتهاء الدراسة، حظيت بزمالة في المتحف البريطاني 2018، ونفذت بحثاً عن تاريخ التنسيق للمصريات في القرن العشرين، وأتاحت لي هذه الفرصة مدخلاً لاختبار مهنة التنسيق، وتوظيف المعلومات النظرية التي تعلمتها، عدت بعد ذلك إلى بلدي، وعملت في تدريس الفلسفة مدة سنة ونصف، ثم التقيت بمسؤولة معرض "خرج والمفروض يعد"، ودخلنا فترة النقاش والتحضير التي استغرقت ما يقارب ستة أشهر.
*أصبحت مهنة "الكيورايتور" متداولة في الأوساط الفنية العربية مؤخراً، لكن يبدو أن توصيفها غير واضح، عرفينا عنها، وما هي مسؤوليتك بالضبط؟
صحيح أن هذه المهنة تعتبر حديثة في الأوساط الفنية العربية، والاسم المتداول لدينا هو مقيم أو منسق العروض، لكن اللفظ الأدق هو الكلمة الإنجليزية، وتعود أصولها إلى اللاتينية من كلمة "كورا"، وهي تعني علاج وتأهيل العمل الفني ليكون بصيغة بصرية مؤهلة للعرض، وبرأيي هذا هو التوصيف الأصح لدور الكيورايتور، فهو يتضمن حفظ الأعمال الفنية، إن بإجراء دراسة متخصصة عنها، أو بطريقة العرض والتوثيق، وكانت هذه الكلمة تستخدم في المتاحف، وتطلق صفة على الأشخاص المتخصصين في المصريات أو الفن اليوناني وغير ذلك، لكن الكيورايتور في الإنتاجات المعاصرة هو الشخص الذي يستطيع توظيف الخبرة العملية لإنتاج معرفة تؤهل العمل الفني بشكل يصبح مفهوماً للجمهور خلال العرض، أي هو عملية توصيل الفكرة من الفنان إلى المتفرج، إنه مثلث الوصل بين هذه النقاط الثلاث، ولا بد أن يكون متوازناً حتى لا يخلق تشويشاً عند المتلقي.
يمتد دور الكيورايتور إلى خلق سردية مترابطة، ويمكن أن أضرب مثالاً أن النقطة الأهم في معرض "خرج والمفروض يعد" الذي يعرض حالياً في القاهرة، هي أن نشرح للجمهور أن تجربة هجرة المصريين إلى الخليج في القرن الماضي كانت زمنية وفريدة للغاية، وكان دوري أن أخلق سردية بين مختلف الإنتاجات التي وصل عددها إلى 15 عملاً، شرحت من خلالها الزمنية بطريقة بصرية وليست كلامية، وتضمنت مهمتي أيضاً اختيار الأعمال التي ابتدأنا واختتمنا بها المعرض، بالإضافة إلى كتابة النصوص المرافقة والبيان الافتتاحي الذي أوضحت فيه سبب الطرح النهائي.
* ما هي المهارات الأهم التي ينبغي توفرها في القيّم والقيّمة، وما الذي يتطلبه إتقانها؟
من المهم أن يكون الكيورايتور متخصص أو على معرفة جيدة بالموضوع الذي يعمل على معالجته، كأن يعمل أحدهم في متحف يعرض أنماطاً فنية عن تاريخ الطب، فمن المهم التخصص في هذا المجال، لكن المهارة المشتركة التي تجمع بين العاملين والعاملات في هذه المهنة هي حسن الاستماع، وأن يتمتعوا بالقدرة على تبسيط المعلومات من خلال النقاشات مع الفنانين والفنانات، وتعميق الدراسات عن الموضوع المراد العمل عليه، وتحتاج هذه المهنة أيضاً إلى الصبر والخيال، فأنا بدوري أتخيل وجهة نظر الجمهور، وما يرغبون بمعرفته، وأحاول أن أكون همزة الوصل التي تربط بين التشعبات.
الكيورايتور طالب ومدرس في الوقت نفسه، فهو يحاول فهم المعلومات التي يتلقاها ويجمعها ثم يعمل على إيصالها بشكل مبسط وعميق، لذلك يأتي هنا دور المهارة الكتابية لشرح السردية، ومن الضروري ألا يُظهر الكيورايتور نفسه فيها، حتى يشعر الجمهور بالعمل الفني، ويدخلون في النقاش والتحليل من دون تأثير.
* من خلال دراستك ومعايشتك للوسط الفني في أوروبا واطلاعك على دور المتاحف فيها وتأثيرها في المجتمع، ما الذي ينقص المجتمعات العربية حتى تدرك أهمية تواصلها بالحركة الفنية؟ وهل يقع التقصير عليها وحدها؟
من الضروري أن نفصل بين دور الفن وتاريخه، فمن غير الضروري أن يكونا مترابطين بالشكل الذي نتخيله، فعندما ننظر إلى تاريخ تطور الفن في أوروبا سنجد أنه يعود إلى الصورة وأهميتها، وقد تبلور مفهوم التصور أواخر القرن الثامن عشر، وهو يقود إلى التعبير عن الأفكار، حتى عندما كان الفنان يجسد بلوحاته صوراً من الكنيسة أو إحدى الشخصيات الحاكمة إلا أنه كان يعبر عن نفسه، والفن الإنساني بشكل عام بدأ بالتصور في كهوف لاسكو في فرنسا، لكن الفن الإسلامي بالتحديد لا يضم هذا المفهوم، فهو ينقل مباشرة من صورة إلى منتج فني فكري، وبرأيي عدم التصور جعلنا نفتقر إلى تعبير الفنان والفنانة عما بداخلهما بشكل واضح، وأدى إلى أن تكون علاقة المجتمع بالفن سطحية، لذلك من الضروري تعزيز الثقافة البصرية، وطرح أسلوب تعليمي مختلف للاستشعار بالفن، فما ينقصنا هو الصلة به.
* عملتِ مؤخراً قيّمة فنية لمعرض "خرج والمفروض يعد"، وهو تجربة مزجت بين القصص الاجتماعية والسرد الفني لمعالجة انعكاس هجرة المصريين إلى الخليج التي بدأت في السبعينيات، وما سببته من تمزق بين العائلات التي عاشت حياتين، إحداهما مؤقتة غير منتهية في دول الاغتراب، والأخرى مشتهاة غير محققة في مصر، حدثينا عن مسؤوليتك في هذا المعرض منذ بزوغ الفكرة حتى إتمامها بالشكل النهائي؟
تعرفت إلى فرح حلابة بداية هذا العام، وهي صاحبة فكرة المعرض، وكانت قد قضت 18 عاماً من عمرها في السعودية، وباحت لي برغبتها تأسيس ورشة عن هجرة المصريين إلى الخليج، ومناقشة زوايا مختلفة من هذا الموضوع، وعندما انتهت الورشة التي استمرت مدة شهرين، أخبرتني أن المشاركين والمشاركات يريدون التفكير بتجاربهم بطريقة مختلفة، وأن شكل المعرض سيكون جامعاً لكل الأفكار المطروحة، وهنا طلبت مني أن أكون القيّمة الفنية، فكان دوري في البداية مثل "الداية" لمساعدة كل فنان وفنانة على تكوين العمل الفني الخاص بكل منهم، بعد ذلك كان علي أن أسهل الولادة بصورة متكاملة.
بدأت الاستماع إلى الأفكار المطروحة وما الهدف منها وإلى أين ستؤدي، بعدها انتقلت إلى تقديم الدعم الفكري لتطويرها، ثم وصلنا إلى مرحلة الإنتاج والنقاش عن المواد الممكن استخدامها، وعندما تبلورت الأفكار بشكل أكثر وضوحاً، عملت على تأويلها وتفسيرها وفق ربطي الخاص لهجرة المصريين إلى الخليج، وكوّنت سردية اعتماداً على التنسيق بين مختلف الإنتاجات التي احتوى بعضها على العديد من الطروحات، واخترت إظهارها كسلسلة متتابعة تبين علاقة الزمن بالهجرة.
اعتمدت بشكل أساسي على أفكار الفيلسوف هيدجر في كتابه "الوجود والزمن"، وقد تحدث فيه عن الشعور بالوجود وليس الوجود نفسه، لذلك بحثت في إمكانية خلق فكرة كينونة المصريين في الخليج بعيداً عن الحنين إلى الماضي، وحاولت خلق خط زمني يظهر تجربة الجيل الثاني التي بدأت بالسفر منذ الطفولة ثم العودة إلى البلد وهم على مشارف الدراسة الجامعية.
كان عليّ أيضاً أن أفكر بالعنوان "خرج والمفروض يعد"، وكيف يعطي للجمهور إحساساً بالإعارة أثناء زيارة المعرض، لذلك بيّنت التمزق الزمني على أنه الرابط بين الإنتاجات المعروضة، هنا انتقلت إلى التفكير بمساحة المكان معالجاً للوقت، بمعنى أن أعرض الوقت من خلال المساحة، وهذا التوظيف ليس بعيداً عن كتاباتي الأكاديمية في فلسفة العمارة.
بدأت مع فرح البحث عن مكان نستطيع من خلاله تجسيد ومعالجة فكرة المعرض بالمساحة، وبعد الاعتماد على مركز الصورة المعاصرة مكاناً للعرض، وتوفر المقاسات، تمكنت في هذه المرحلة من تقديم تقييم دقيق للفنانين والفنانات عن أحجام الأعمال، لقد عملنا على إنجاز هذا المعرض بوتيرة واحدة، اعتمدنا فيها على إنجاز المطلوب في وقت واحد.
* كتبت في وصف نص المعرض أن الفنانين ينبشون "ما مزقته الزمانية أو الوجود المؤقت" بطريقة تُظهر فيها "اختياراتهم في الشكل شكوكاً حول الحنين إلى الماضي، وحتماً نجد أنفسنا نتأمل في تجربة الإعارة"، هل المقصود أن المصريين كانوا غير مدكين للوجود المؤقت أو المُعار في الزمان والمكان، وجاء المعرض لقلب هذا المفهوم؟
ما قصدته في هذا الجزء من النص هو أن تعبير الفنانين والفنانات بالأعمال المركبة التي احتوى العديد منها على صيغ مختلطة، حمل شكوكاً حول النوستالجيا، وقد حاولوا طرح تساؤلات حول هذه التجربة، وليس أنهم عملوا على توصيفها، فاختيار أشكال التعبير المركبة التي تحجز مساحة، وتجعل الجمهور يتحرك حولها، نبع من سؤال لديهم، وليس من إجابة، وبالنسبة إليّ كانت هذه النقطة مهمة لأنها نقلت المعرض من فكرة عرض هجرة المصريين في الخليج إلى مناقشة عن كينونتهم وتجربتهم هناك.
سأذكر مثالين يوضحان أن الأعمال التركيبية هي تركيب في الوقت والمساحة، وتظهر طريقة إدراك التجربة، وتدخلنا في تفاصيلها وتكوينها، فتنقل الجمهور من مجرد الاستمتاع بالفرجة إلى إمكانية اختبار محاولات المشاركين والمشاركات لعملية الإدراك، العمل الأول لعمر منصور بعنوان "غير محدد"، أظهر من خلاله عملية البحث والتفكير ومحاولة فهمه أبعاد التجربة، والثاني لآية بندالي، وهو عمل تركيبي كبير حجز ثلث مساحة إحدى غرف المعرض، أفرغت فيه تجربة الهجرة من خلال اللغة باستعراض كلمات من حقيبة سفر،
* لو أنك لم تعملي قيّمة فنية، ما المهنة التي كان من الممكن أن تعملي بها ولماذا؟
بما أني كنت أميل إلى الفن منذ صغري، فأعتقد أنني في الغالب كنت سأتجه إلى احتراف النحت، فهو يتعامل مع المساحة، ويجعل الجمهور يختبر المنتج الفني بأبعاد مختلفة، لكن فيما بعد زاد اهتمامي للفلسفة والاتجاهات الفكرية، وعندما بدأت بالتعرف إلى الفنانين والفنانات، وجدت أنهم يستطيعون تحويل الجانب الفكري لمنتج غني بصرياً باستخدام الحواس بطريقة مختلفة، لذا أعتقد أنني أميل أكثر إلى المزج بين الفلسفة والفن بشكل إنتاجي لكي أعكس طريقة تفكيري.
إعداد وحوار: ميرنا الرشيد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!