الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الفاغنر وأحد الأسباب الخفية للعملية العسكرية
أيوب نصر

أولاً: المقدمة

ما أحاول بيانه في هذا البحث، ليس هو الدور الذي تلعبه قوات الفاغنر في العملية الخاصة التي تقوم بها القوات الروسية في أوكرانيا، وإنما الذي أصبو إلى بيانه والكشف عنه، هو رأي لاح في خاطري في لحظة من لحظات توارد الأفكار وعبور الآراء، لأخذ في تقصيه وأذهب في جمع الأدلة عليه، وهذا الرأي في مجمله يقول إن الفاغنر هي سبب من الأسباب التي تعلقت بها الأزمة الأوكرانية، ولعل كثيراً من الناس قد ينكرون علي ما سأحدثهم به في هذا البحث، ولا ضير، فهكذا هم الناس، فإذا خرجت عليهم برأي أو تحليل أو نظر، لم يعهدوا سماعه ولم يألفوا قراءته، أنكروه وعلت وجوههم قترة، وبان على سيماهم أثر الغرابة منه، ونزحوا إلى رده والإعراض عنه والنفور منه، غير عابئين بالأدلة أو ناظرين في البراهين التي أقيم عليها ذلك الرأي وبني عليها ذلك القول.

إن قوات الفاغنر كان لها دور مهم في حدوث الأزمة واندلاع العملية العسكرية، ومن حق القارئ عليّ أن يسألني: كيف ذلك؟ والجواب على هذا السؤال يفرض علينا العودة إلى الحرب الباردة، وتحديد الميادين التي جرب فيها معاركها وأحداثها، ثم بعد كل ذلك ربط الأحداث الماضية بالحاضرة.

ثانياً: ميادين الحرب الباردة

انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، ليبدأ بعدها العالم عهد جديد من عهود هذه الإنسانية، عهد الثنائية القطبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، قطبين متباينين مختلفين، بل متنافرين، فهما لا يلتقيان حتى لو انطبقت السماء على الأرض، فكان من البديهي أن يبدأ الصراع بينهما، إن لم يكن قد بدأ منذ حين، فقد جاءت الحرب العالمية لتوحدهما لتوحد العدو، ثم انتهت الحرب ليعودا إلى عدائهما القديم، وهذه سنة كونية، والتي تقتضي أن كل متحالفين في وجه عدو مشترك، لا بد أن يقوم بينهما الصراع بعد نهاية ذلك العدو، ولأجل هذا تظهر التصفيات بعد الثورات والانقلابات.

ولقد كان لهذا الصراع القائم بين القوتين العظيمتين ميادين، جرت فيها معاركه وتقاتل فيها رجاله، وقد خلصت بعد التتبع والاستقراء إلى ثلاثة ميادين رئيسية دارت فيها معارك الحرب الباردة، وهي السباق نحو التسلح، وصراع المخابرات والجواسيس، والتوسع.

1- السباق نحو التسلح

إن أول شيء يسبق إلى الذهن ويهجم عليه الفكر، حين يسمع السامع مصطلح الحرب الباردة، هو السباق نحو التسلح، وذلك أن هذا الميدان من أهم سمات تلك الحرب وأكثرها وضوحاً وبياناً، وحسبك في ذلك أنه عرفت به أكثر من غيره من باقي الميادين الصراع، وأصبح هو دالاً عليها، فلا يذكر أحدهما إلا مقروناً بالآخر.

2-صراع المخابرات والجواسيس

لقد لعبت وكالات وأجهزة الاستخبارات دوراً مهماً في الحرب الباردة، وكانت تلك الحرك من أهم الدوافع إلى العمل على تطوير الأجهزة الاستخباراتية وتحسين مستواها وتنمية قدراتها، وخاصة الكي جي بي ووكالة المخابرات المركزية.

ويعتبر هذا الميدان هو الثاني من حيث الأهمية، في الحرب الباردة، بعد السباق نحو التسلح، والذي أراه أن المخابرات السوفياتية تفوقت على نظيرتها الأمريكية والبريطانية، ويتمثل ذلك التفوق في القدرة على اختراق مشاريع غربية كانت أهمها مشروع القنبلة الذرية البريطاني، و"استطاع أن يزرع عملاء داخل جهاز الاستخبارات البريطاني نفسه، حتى أ، رئيس قسم الاستخبارات المضادة ضد السوفيات كان عميلاً للسوفيات، وظل السوفيات ينقلون أطناناً من الوثائق البريطانية إلى الجهاز فيما يتعلق بالأسرار العسكرية والسياسية والعلمية"1.

كما أن جهاز الاستخبارات السوفياتي تمكن من اختراق مشروع مانهاتن، وهو المشروع الأمريكي الذي كان يعمل على القنبلة الذرية2.

وهناك من يبرر هذه الاختراقات التي حدثت في صفوف الأجهزة الأمريكية والبريطانية، ويرجعها إلى حالة التراخي والخمول التي طالت تلكم الأجهزة الغربية المخترقة بعد الحرب العالمية الثانية، أي إن هذا الاختراق لم يصدر عن قوة الجهاز السوفياتي، وإنما صدر عن تهاون في الأجهزة الغربية.

وهذا الادعاء هو ادعاء مردود من وجهين، أولهما: إننا بإزاء دولتين لهما أجهزة عميقة ومؤسسات عريقة، وهذه المؤسسات وتلكم الأجهزة المسلم فيها ألا تتوقف عن العمل، بل هي دائمة الحركة والنشاط، مهما تغيرت الأحوال ومهما استجدت المستجدات، ولهذا استبعد أن تكون تلكم الأجهزة والمؤسسات البريطانية والأمريكية، خاصة منها التي تعمل من وراء حجاب، قد دخلت في حالة من الخمول والتراخي بعد الحرب العالمية الثانية.

وأما الوجه الثاني فيتجلى في العداء الذي كان قائماً، قبل الحرب العالمية الثانية، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، والذي تم إرجاءه بسبب اندلاع الحرب، وتحالف القوتين الإجباري في وجه ألمانيا النازية، وذلك ما يؤكده روبرت جيه ماكمان في كتابه: "الحرب الباردة: مقدمة قصيرة جداً" حيث يقول: "كان زواج المصلحة الكلاسيكي الذي جرى إبان الحرب على صورة تحالف بين كبرى القوى الرأسمالية والمناصر الأكبر لثورة الطبقة العاملة مشوباً منذ البداية بالتوتر وفقدان الثقة والريبة. وبخلاف الهدف المشترك المتمثل في هزيمة ألمانيا النازية، لم يكن هناك ما يعزز هذه الشراكة المولودة بدافع من الضرورة المثقلة بماض مليء بالصراع."3

وهذا العداء المتبادل والنزاع القائم بين الدولتين العظمتين، قبل الحرب العالمية الثانية، والذي تم وضعه جانباً لما تقتضيه الحرب، وظهور العدو المشترك المهدد لهما معاً، كان لا بد له أن يعود للظهور مباشرة بعد تصفية العدو المشترك، وهذا يقتضي أن تلك الأجهزة والمؤسسات لن توقف نشاطها ولن تتهاون في عملها، بعد أن تنته الحرب، وإنما ستعمل عملها وتجد جهدها، ولن تترك شيئاً مما تعرف وتجيد وتحسن، استعداد للمواجهة الجديدة مع العدو القديم.

وهذان الوجهان يبطلان الحجة التي يبرر بها البعض العلة في تمكن الكي جي بي من اختراق الأجهزة الأمريكية والبريطانية.

3-التوسع

لقد سعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، إلى كسب دول أخرى في جانبها وجلبها إلى صفها وإدخالها تحت نفوذها، وذلك حتى تعزز بها حزبها وتخوض معها حربها، خاصة إذا كانت تلك الدول تقع في مناطق استراتيجية قريبة من الدولة العدو، وقد كان هذا الميدان، بالنسبة لي على الأقل، أهم ميادين الحرب الباردة وأكثرها تأثيراً، وبه تعلقت أسباب التفوق.

إذا كان الاتحاد السوفياتي قد تفوق إلى حد ما عسكرياً واستخباراتياً، لكنه خسر ميدان التوسع، وما ذلك إلا لما كان يفتقده من سلاح في هذا الميدان، وهو سلاح الدعاية والإعلام، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الآلة الإعلامية الأمريكية والصناعة السينمائية تعمل عملها في حشد الجماهير وتكوين الرأي العام والترويج للنمط الأمريكي والقيم الغربية، فأصبحت الشعوب تأبى على حكوماتها الانضمام إلى المعسكر الشرقي، لما تأثرت به تلكم الشعوب من مظاهر الحياة الغربية ونمط العيش الأمريكي، والذي ساهمت في انتشاره وإذاعته بين الناس الآلة الإعلامية الغربية والصناعة الهوليودية، ليبدأ الاتحاد السوفياتي كل حين يخسر شيئاً من مواليه وقسطاً من أراضيه إلى أن انهار مع توالي الأيام وتعاقب الليل والنهار، وبقي على هذا الحال إلى أن تفكك وانهار.

وأحب أن أقدم شيئاً بين يدي القارئ الكريم، وهو أن الشعوب التي رغبت في نمط العيش الغربي والحياة الأمريكية وما يتجلى فيها من قيم الحرية والتقدم وانطلاق، مما صورته الآلة الإعلامية الغربية، لم تحصل إلا على شيء واحد وهو أنها خرجت من استعمار إلى استعمار، خرجت من استعمار نمطي تليد إلى استعمار عصري جديد، من سماته التبعية وضياع الهوية وذهاب التاريخ، وذلك ما عبر عنه أود آرن وستاد في كتابه "الحرب الباردة الكونية" بقوله: "ما زال يفترض أن الحرب الباردة كانت سجالاً بين قوتين عظيمتين من أجل القوة العسكرية والسيطرة الاستراتيجية مركزة في أوروبا، هذا الكتاب، على العكس من ذلك، يدعي أن أهم جوانب الحرب الباردة لم تكن عسكرية ولا استراتيجية وإنها لم تتركز في أوروبا، بل كانت مرتبطة بالتطور السياسي والاجتماعي في العالم الثالث، وقد أشرت إلى أن العمليات المزدوجة لإنهاء الاستعمار وتنوير العالم الثالث لم تكن بحد ذاتها نتاج الحرب الباردة، ولكنها أثرت فيها بأساليب أصبحت مهمة للغاية وساهمت في تكوين العالم الذي نعرفه اليوم."4.

ويقول: "بالحس التاريخي، وخاصة بزاوية رؤية من الجنوب، كانت الحرب الباردة استمراراً للاستعمار، ولكن بأساليب ووسائل مختلفة قليلاً. كعملية صراع، تركزت حول السيطرة والهيمنة، وخاصة من حيث الأيديولوجية. كانت أساليب القوتين العظمتين وحلفائهما المحليين قريبة الشبه بالأساليب التي عمل بها في الحقبة الأخيرة من الاستعمار الأوروبي: مشاريع اجتماعية واقتصادية عملاقة ووعود بالحداثة لمسانديهم ووعيد بالموت للمعارضين أو من يقفون في طريق التقدم."5

وهذا الذي نقله أود آرن وستاد، هو ما نراه الآن أيضاً، وظهر بصورة واضحة جلية لا تشتبه، على من أوتي قسطاً من الفهم أو حظاً من النظر، في العملية العسكرية الروسية حيث وقفت دول أوروبا خاضعة للقرار الأمريكي فلا هي تقدر على معارضته ولا هي تصبر على مسايرته.

ثالثاً: كيف تكون الفاغنر من أسباب هذه العملية؟

أولاً أعتذر منك على هذه الإطالة في الحكي والاسترسال في الكلام، حول الميادين التي جرت أحداث الحرب الباردة، ولكنه ذلك الاسترسال لا غناء عنه لأبين عن نظرتي للأحداث الحالية، والذي يهمنا هنا من تلكم الميادين، هو الميدان الثالث، أي ميدان التوسع، والذي أصبح بعد سقوط الاتحاد السوفياتي هو الميدان الأول من حيث الدلالة على هذه الحرب الباردة، التي لم تنته يوماً وإنما هي مستمرة إلى يوم الناس هذا.

خسر الاتحاد السوفياتي معركة التوسع، وذلك بعد الدور الذي لعبته الآلة الإعلامية الغربية في صناعة الرأي العام وتوجيهه، واستغلاله في تفكيك الدول وإسقاط الحكومات ودعم أخرى، وفق ما بينه في الذي سبق من هذا البحث، فارجع إليه إن شئت.

وقد ورثت روسيا إرث الاتحاد السوفياتي، بخيره وشره، وعلمت أن الولاءات لا تدوم، وأنها تتغير، وفق تغير الظروف، ووسط كل هذا ظهرت شركة فاغنر، شبه العسكرية، وبدأت عملها من سوريا، مروراً إلى ليبيا ووصولاً إلى مالي ودول الساحل والصحراء، وهنا لجأت روسيا إلى أمر مهم، وهو استغلال توسع هذه الشركة في مناطق نفوذ القوى الغربية وحدائقها الخلفية، لتعمل شراكات مع الدول التي حلت بها الفاغنر، وفق القاعدة القائلة: "رابح رابح" وهكذا غيرت روسيا النهج التي سار عليه الاتحاد السوفياتي والذي يسير عليه الغرب إلى الآن، وهو النهج الاستعماري.

وهذا التوسع الاستراتيجي العقلاني، الذي قامت به روسيا في مناطق النفوذ الغربي، لا بد أن يزعج الغرب، فلم يجد إلا المسارعة إلى محاولة خنق روسيا أكثر بالضغط عليها بورقة أوكرانيا، فجعلوا أوكرانيا مقابل انسحاب الفاغنر من تلك المناطق، وهذا ما يظهر سواء من خلال الاتصالات التي أجراها ماكرون مع الرئيس بوتين أو في زيارته له، قبل بداية العملية العسكرية، فكان دائماً يركز على فاغنر ودورها في ليبيا ودول الساحل، فكأنه كان يحاول أن يساوم على أوكرانيا بالفاغنر، ويضع شرطاً لتخلي الناتو عن أوكرانيا وعدم ضمها، وهو سحب قوات الفاغنر من مناطق يعتبرها الغرب حديقته الخلفية، ليأتيه الجواب دائماً بأنه لا علاقة تربط الحكومة الروسية بالفاغنر حتى تتركها أو تسحبها.

ولا يمكن المرور على ذكر ليبيا والفاغنر، في محادثات تخص أوكرانيا، إلا أن يكون بينهما الرابط وعلاقة، مما يظهر منه أن أوكرانيا كانت ورقة ضغط يساوم بها الغرب روسيا على أوكرانيا، وبما أنه لا يد للحكومة الروسية على الفاغنر، فقد اختار الكريملين معالجة الأزمة بنزع أسبابها مباشرة، وبهذا ذهب إلى العملية العسكرية في إحراج للغرب لم يكن ينتظره أو يرقبه.

(1) و(2) مقال في موقع الجزيرة تحت عنوان: "الكي جي بي.. جهاز الاستخبارات السوفياتي".

(3) كتاب "الحرب الباردة.. مقدمة قصيرة جداً" لروبرت جيه ماكمان، ترجمة: محمد فتحي خضر. الناشر: مؤسسة هنداوي سنة 2014.

(4) و(5) كتاب "الحرب الباردة الكونية" المؤلف: أود آرن وستاد. ترجمة: مي مقلد. الناشر: المركز القومي للترجمة. طبعة 2014.

ليفانت- أيوب نصر

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!