-
الغرفة التي وقّعتْ على الكارثة
فقط تسريبات مسودة الكتاب، (الغرفة التي حدثت فيها ذلك) لكاتبه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، أشعلت أروقة البيت الأبيض ضجيجاً وتهديداً، كما لو أنّ الرئيس، دونالد ترامب، يوبّخ أو يهدّد أحد الحكّام لعدم التزامه بدفع ما طلب منه.
أهمية هذا الكتاب، لا يكمن فقط لاحتوائه على معلومات سرية وحساسة عن السياسة الخارجية الأمريكية في العالم، وكذلك الأمن القومي الأمريكي، بقدر تناوله لسلوك، وشخصية، وآلية اتخاذ القرارات من قبل رئيس ما زال على رأس عمله، ويتزامن مع دعوات الديموقراطيين لعزله، إلى جانب خوضه لحملته الانتخابية مع منافسه جو بايدن.
يتحدّث السيد بولتون في كتابه، عن الصين وكوريا الشمالية وإيران، وملفات أخرى حساسة في الشرق الأوسط، اختلف فيها مع الرئيس ترامب، إلا أنّ الأكثر إيلاماً ووجعاً، وخلفت وراءها كارثة بحق شعبٍ أنهكته أزمة بلاده السياسية والاقتصادية، وحروب التنظيمات السلفية الجهادية، إلى جانب تدخلات الدول الإقليمية السياسية والعسكرية، لتصفية حساباتها على حساب دم أبنائها، تلك المكالمة الهاتفية التي أجريت في “الغرفة” مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان .
في تلك “الغرفة والليلة”، التي يتحدّث عنها السيد بولتون، قدّم الرئيس التركي نفسه كحمامة للسلام، أمام رئيس لا يعرف من السياسة الخارجية لبلاده، سوى أنّ “أمريكا أنفقت الكثير من المال على حروب عبثية في الشرق الأوسط”، وهو الذي سبق أن أمرَ فجأة بسحب قواته العسكرية من شمال سوريا، ثم ليتراجع عن قراره، بطرح فكرة إقامة “المنطقة الآمنة” في شرق الفرات. بالطبع، لا يعرف الرئيس، الذي أبدى استغرابه من جواب رئيسة وزراء بريطانيا، تريزا ماي، وهي تذكره بأنّ “بريطانيا دولة نووية”، ليردّ عليها مستغرباً: “آه.. عندكم نووي”. هذا الرئيس، لا يعنيه كم استشهد من الشباب الكرد دفاعاً عن العالم والإنسانية في حربهم ضد داعش، في سوريا والعراق، ولن تصله لهيب نار الحقد والانتقام الذي يحمله متكلمهُ في الطرف الآخر للانقضاض على سري كانيه (رأس العين)، وكري سبي (تل أبيض)، بمجرد أن يغلق سماعة الهاتف، بدل محاربة تنظيم داعش كما “وعد”. لا شك، نجح السلطان الذي صفّى معارضيه السياسين ومنافسيه بتهمة “الانقلاب، والانتماء لجماعة فتح الله كولن” في الإيقاع بالرئيس الحالم بولاية ثانية لأمريكا الرأسمالية، بمساعدة رئيس جمهورية الصين الاشتراكية.
مكالمة لم تتجاوز مدتها الربع ساعة في تلك الغرفة، خلّفت وراءها مأساة بحق آلاف المدنيين الأبرياء، كانوا ينعمون بالأمن والاستقرار في مدنهم وقراهم على الشريط الحدودي مع تركيا، التي بدأت بشنّ هجوم عسكري مع الفصائل السورية المسلحة، استهدفت بشكل عشوائي المدينتين (سري كانيه، كري سبي)، والقرى المحيطة بهما، أجبرت خلال ساعات، حوالي ثلاثمائة ألف مدني على النزوح والتشرّد، لم يحملوا معهم إلا حلم العودة يوماً، وصرخات الأطفال والنساء مع أنين المسنين المحمّلين على الأكتاف. لم تسعف خيبة أملهم بانسحاب القوات الأمريكية أمام هول مأساتهم، وهم يشاهدون كيف تنهش “الذئاب الرمادية” بجسد وأرض “حلفائهم” ضد تنظيم داعش والإرهابيين.
ولم تكتفِ أصحاب الذقون الحليقة، والسراويل الأفغانية، التي وعد رجب طيب أردوغان، بملاحقتهم والقضاء عليهم في سوريا، بالانتقام من الكردي التوّاق إلى حريّته، بل تمعنّوا وما زالوا في إجرامهم وقتلهم وتدميرهم الممنهج، المخالف لكل القيم والأعراف الدولية ضد الشعب الكردي. كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، صادقاً في قوله لترامب: “إنّ هدف أردوغان هو الكرد وليس تنظيم داعش”، لكن الكارثة وقعت بتوقيع في تلك الغرفة، وما زال المدني الكردي نازحاً بعيداً عن بيته، وأرضه، وملكه، يفترش الخيم في العراء، ينتظر الصدقات (المعونات الإغاثيّة) الدولية كل شهر، بعد أن كان هو المغيث لعشرات العوائل السورية النازحة من مناطق الجنوب والوسط والشمال.
يتذكر الشعب الكردي في سوريا بمرارة ما حدث في تلك الغرفة، حتى لو لم يدونها السيد بولتون في كتابه، فما زالت الكارثة مستمرة بكل تجلياتها وتبعاتها، وما زال العالم صامتاً عاجزاً عن القيام بمسؤولياته. لا ينسى هذا الشعب كم تعرّض للخيانة والظلم في الغرف المغلقة والمفتوحة عبر تاريخه، ولكن من حقّه أن يُذكّر قادة الدول الحرة وشعوبهم بعمق الجرح الذي يعاني منه الكردي المهجّر، والمشرّد، جرّاء الممارسات والجرائم اللاخلاقية التي ترتكب بحقه يومياً من قبل دعاة “فتح ينابيع السلام” وحاملي “غصن الزيتون”، ومن حقّه أن يطالب العالم ومؤسساته، بوقف محاولات طمس هويته القومية، وإبعاده عن دياره وأرضه عنوةً، ولابد أن يدرك “مهرجو” الغرف المغلقة، أنّ ما حدث ويحدث، سيبقى وصمة عار على جبين الإنسانية.
ليفانت – عبدالوهاب أحمد
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!