الوضع المظلم
الأحد ٠٥ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
العقل الرأسمالي والحلول السياسية الرخيصة
كمال اللبواني

يميل العقل الرأسمالي لاختيار أرخص التكاليف، لكنه عندما يطبق في السياسة فإن الحلول الأرخص تكلفة هي دوماً الأقل جودة، وهكذا تنتهي هذه الطريقة في السياسة بكوارث استراتيجية على المدى البعيد، حيث تتراكم الأزمات وتنفجر بأشكال غير متوقعة.

هذه العقلية تشبه استعمال المسكنات والعلاجات العرضية في مقاربة الأمراض، تخفي الأسباب المرضية وتتجاهل ضرورة البحث عنها وعلاجها من جذورها لأنها طريقة مكلفة وتحتاج لجهد واستثمار ووقت، مستبدلة ذلك المسعى بمسكنات توحي بحدوث تحسن في صحة المريض، وهكذا تصل إلى نتيجة تشبه حقن المورفين (الأمور أفضل الأمور تبدو بخير) لكن المريض يموت.

كل أزمات العالم في العصر الرأسمالي تتفاقم وتنفجر حروباً وكوارث وصراعات رغم التقدم والحضارة الظاهرية، لن نكتفي بتعداد أزمة البيئة والمناخ والتلوث والطاقة والموارد القابلة للنضوب، ولا التزايد السكاني وفوضى التحديث والاستعمار والاستبداد والحروب العالمية، الساخنة والباردة، وصولاً لصراع الحضارات وانغلاقها، وتراجع القيم الإنسانية والأخلاق وتدهور البنى الاجتماعية، ودخول معظم الدول لحالة الفشل والمديونية والتضخم المتراكم، وانتشار العنف والمخدرات ودمار الأسرة، بالتزامن مع التطور الاستهلاكي والتكنولوجي الهائل والمدمر بشكل جنوني. لدرجة يبدو العالم كصندوق مضغوط يئنّ وينتظر الانفجار على شكل حرب فتاكة تهيَّّأ للقضاء عليه بسبب تطور أدوات الدمار من دون تطور أدوات الضبط والتحكم.

عندما تذهب للسوق وتشتري الأرخص فأنت تشتري الأسوأ، هذا قد لا يكون هاماً عندما تكون البضاعة مستهلكة، لكنه خطير عندما يتعلق الموضوع ببناء وتطور المجتمعات الإنسانية، فانحراف مسار التطور ولو بدرجة قليلة في البداية سوف يؤدي مع الزمن لخروج القطار عن السكة وتدهور المسار كله، فالمجتمعات الإنسانية بناء معقد يشبه الجسد الحي، لا يجوز التساهل في علاج أمراضه، لكي لا يقع فيما بعد بتناقضات داخلية تقطع سلسلة الحياة فيه وتجعله يموت، لأن موت التشكيلات الاجتماعية ينتهي بكوارث وحروب ومجازر ومجاعات، وتكاليف إنسانية ومادية باهظة، كان من الأفضل الاهتمام بعلاجها منذ البداية قبل تفاقمها.

لقد وجد الغرب في الأنظمة العسكرية في العالم العربي بديلاً رخيصاً يتابع مهمة جيوش الاستعمار فاعتمدها ودعمها، وتجاهل تشوّه بنية هذه المجتمعات، فانتهت تلك الدول لحروب وثورات ونزوح ومجازر وأزمات.. بحيث تحول العالم العربي لأكبر ساحة فشل وتوتر وصراعات، بالرغم من أهميته الجغرافية والسكانية والحضارية، وتوهم الغرب أن هذه المجتمعات عندما تمرض وتتفسخ لن تؤثر عليه، ونسي أنه هو ذاته يجد السير في طريق العولمة، توهم أن وجود أنظمة عسكرية مستبدة كاف لقيادة تحديث قسري يلغي الهوية والثقافة والدين، فأدى ذلك لنتيجة معاكسة، هي نمو ظواهر ومنظمات تستند للدين من أجل تبرير عمليات العنف والإرهاب ضد العالم الذي صار معادياً لها، بحسب تجربتها وخبرتها والواقع الذي عاشته تلك الشعوب ولا يحتاج لدليل، عندما استيقظ الغرب على أحداث 11/9/2001، فكر للوهلة الأولي بشن حرب نووية على العالم الإسلامي، متجاهلاً أنه هو المسؤول عن نشوء وتطور هذا العدو المتوحش، ثم عندما فكر بأن الاستبداد والفساد الذي زرعه في تلك الدول هو الذي نشر الجهل والتعصب والكراهية وحوّل المجتمعات لسجون ومدن صفيح، هو من أوجد البنية التحتية لظاهرة الإرهاب الإسلامي، وجد أن تكلفة إصلاح تلك المصيبة التي صنّعها بإهماله وقلة أخلاقه مكلفة جداً، لذلك اكتفى أيضاً بالحلول الرخيصة، وهي الضربات العسكرية لبؤر الإرهاب، وترك هذه الشعوب لمصيرها، والتي عندما ثارت على تلك النظم كان من الطبيعي أن تركب ثوراتها تلك التنظيمات الجهادية المنظمة، وهذا أيضاً واجهه الغرب بسياسة رخيصة هي إعادة العسكر الفاسدين وتثبيتهم بالسلطة، على أمل استنزاف طاقة المجتمعات وتدميرها لذاتها، متجاهلاً أيضاً أن دمار البنى وفشل الدول لن يجعل تلك الشعوب تنقرض، بل تهاجر أو تعيد بناء ذاتها بطريقة جديدة حسب الإمكان.. وهي الفوضى التي لا بد أن تجد طريقها للانتظام بطريقة أو أخرى.

وحدها الشعوب هي من يجب أن تجد طريقها للاستقرار والحضارة بشكل مستقل عن العالم الذي يدّعي الحضارة، أبداً لا يجب أن تتوقع من العالم الرأسمالي المتحضّر إلا التدخل الاستغلالي القصير النظر، لأن ذلك العالم لم يرتقِ بعد لإدراك أهمية المعايير والقيم في بناء السلم العالمي، وهذه طبعاً ذات تكلفة عالية تتناقض مع العقل الرأسمالي.
 

ليفانت - كمال اللبواني

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!