الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الشمال السوري..
أحمد رحال

اندلاع الاقتتال بين فصائل الجيش الوطني بالشمال السوري لم يكن مستغرباً لكل العارفين بطبيعة عمل معظم قادة هذا الجيش (بعيداً عن عناصره)، والطريقة التي تشكل بها، وأسرار وخفايا المزارع التي يديرونها، وجعلهم المنفعة والتكسب أهدافاً وحيدة يسعون لتحقيقها، بعيداً عن أي هم ثوري أو التزام بالقضية السورية، إلا عبر تصريحات وشعارات لم تعد مقنعة حتى لعناصر هذا الجيش.

حالة عدم الاستقرار العسكري والأمني والاقتصادي التي نتجت عن ممارسات خاطئة لبعض قادة الفصائل، عبر القيام بعيداً عن القضاء باعتقالات عشوائية وكيدية، وملاحقة البعض لأسباب شخصية، مع عمليات التغييب القسري والاغتيالات المتلاحقة للإعلاميين والناشطين الذين يحاولون كشف الحقيقة، كما حصل مؤخراً مع الإعلامي محمد أبو غنوم الذي كشف ملف فساد المخدرات، وحاول الإمساك بكل خيوط الملف لنشره للرأي العام، فكان قرار اغتياله على طريقة "هيك بدو المعلم"، إضافة لتقاسم قادة الفصائل المناطق التي اسموها "محررة" من أجل نصب حواجزهم على الطرقات لجمع "الخوات والإتاوات"، وفتح معابر التهريب مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية ومناطق نفوذ النظام لجني الأموال، إضافة لنشر آفة المخدرات (الكبتاغون) التي باتت الطريق الأسهل لكسب المال، هذا الواقع المزري أحرج وأغضب الراعي التركي، الذي بات يبحث عن وسيلة لإعادة التوازن لمنطقة يعيش فيها حوالي خمسة ملايين لاجئ ونازح ومقيم، خاصة أن المسؤولين الأتراك تحدثوا مؤخراً عن خطة لإعادة مليون ونصف سوري "طوعاً" من المدن التركية، والواقع الحالي لا يشجع العائدين، وسيحجم أي سوري بالخارج عن العودة بتلك الظروف. أيضاً الحكومة التركية لديها استحقاق انتخابي هام ومفصلي خلال أشهر قليلة، وحالة عدم الاستقرار والفلتان الأمني وعودة الاقتتال البيني للفصائل ليست حالة مثلى، بل ستشكل ورقة ضاغطة قد يستخدمها خصوم حزب العدالة والتنمية الحاكم لتغيير نتائج الانتخابات القادمة.

الصدام الأخير بين الجبهة الشامية، أحد مكونات الفيلق الثالث، مع فصيل الحمزات، لم يكن سببه المباشر قضية اغتيال الإعلامي أبو غنوم وزوجته وجنينها، بل كانت ذريعة اتخذت سبباً لتصفية حسابات ونزاعات سابقة، وكذلك القتال الذي اندلع فيما بعد بين الفيلق الثالث وهيئة تحرير الشام، أيضاً ليس ناجماً عن محاربة الفساد في مناطق غصن الزيتون كما ادعى أبو محمد الجولاني أمير الهيئة، وليس دفاعاً عن مناطق غصن الزيتون والثورة كما ادعى الفيلق الثالث، بل هي صراعات وتضارب مشاريع، فالجولاني لديه خطة ومشروع للسيطرة على كامل المحرر، ويسعى لفرض اندماج قسري بين الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ، ومن ثم وضع اليد على كامل ملفات "المحرر" الأمنية والعسكرية والاقتصادية، مما يشكل حالة صدام مع مشروع تحدثت عنه الجبهة الشامية بمعرفاتها وعبر قادتها، مما اعتبره الجولاني تحدياً منافساً فأراد استئصاله قبل تمدده وانتشاره، والمعلومات المسربة من داخل غرفة شورى هيئة تحرير الشام تنبئ أن خطة الهجوم على مناطق غصن الزيتون كانت معدة ومخططة ومقررة للتنفيذ بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، لكن اندلاع القتال مع حليف الهيئة فصيل الحمزات استدعى تقديم موعد التنفيذ.

كثيرة هي الأسئلة التي راودت عقول المهتمين بالشأن السوري حول عمل وتبعية الجيش الوطني، ومن صاحب القرار فيه، وتشظيه لثلاثة أقسام، ما بين مدافع ضد أرتال هيئة تحرير الشام بغزوتها لعفرين، وما بين مدافع، وما بين من اتخذ الحياد خياراً وابتعد عن القتال دون أي التزام (كما كان يفترض) بالدفاع عن باقي مكونات الجيش الوطني الذي يتعرض لحملة إبادة، أو واجب الدفاع عن الحاضنة الشعبية كونه جهة وحيدة حاملة للسلاح، وأكثر الأسئلة كانت: هل تمردت بعض الفصائل على الضامن التركي وخرجت عن طوعه، وهي التي التزمت بكل الأوامر الصادرة عن تركيا منذ تأسيس الجيش الوطني، والتزمت أيضاً بكل ما تعهدت به أنقرة لموسكو من خلال تفاهمات وتوافقات أستانا التي أغلقت كل جبهات القتال مع نظام الأسد وحلفائه، وأبقتها مفتوحة فقط حيث تريد في جبهات قسد وليبيا وأذربيجان، فكيف حصل ما حصل؟

من المؤكد أن التغيير بتموضع فصائل الجيش الوطني لم يكن تمرداً ولا يجرؤ أحد على التمرد أساساً، ولم يكن عصياناً للأوامر، بل كان ناجماً عن تنازع بالمسؤوليات بسبب تعدد الجهات التي تدير الملف السوري في الجانب التركي، ما بين وزارة دفاع ووزارة داخلية واستخبارات، والتجربة تقول إن تعدد جهات التعاطي مع ملف واحد غالباً ما تؤدي إلى تضارب بالأوامر وتضارب بالتعليمات، وبالتالي حصل ما حصل.

انتفاضة الحاضنة الشعبية في مدن وبلدات الشمال السوري الرافضة لهيمنة تنظيم هيئة تحرير الشام كانت البوصلة التي أعادت ضبط المسار، واحتدام القتال الذي تمدد لأبعد من قتال الفيلق الثالث مع أرتال الهيئة، بعد انضمام فصائل لتقاتل لجانب الهيئة وفصائل أخرى لتقاتل بجانب الفيلق، وسع ساحات الاشتباك، أيضاً تسبب الاشتباكات بمقتل مدنيين واحتراق مخيمات لاجئين ونازحين على الشريط الحدودي، يضاف لها الضغط الإعلامي، كلها أسباب دفعت بالجيش التركي للتدخل بعنف فارضاً وقفاً إجبارياً لإطلاق النار بعد اجتماعين متزامنين حصلا في معبري باب الهوي وباب السلامة مع قيادات الهيئة والفيلق الثالث، ومن ثم منح حركة ثائرون مهمة القيام بعمل قوات فصل بين المتحاربين، ثم أعطى الجيش التركي أوامر غير قابلة للنقاش بلزوم مغادرة أرتال هيئة تحرير الشام لكامل منطقة غصن الزيتون والعودة إلى مقراتها في إدلب، ومع تسرب معلومات عن استقدام الجولاني لحوالي ألف سجان وإداري وموظف تم توزيعهم سراً على مفاصل مهمة داخل عفرين بتواطئ من بعض الفصائل، قام الجيش التركي بتشكيل دوريات ميدانية والتفتيش والتدقيق داخل كثير من المناطق طارداً من تم كشفه ليلحق بأرتال الهيئة المنسحبة من عفرين، لكن الكثير من الخلايا التابعة للجولاني ما زالت موجودة.

حسم الجيش التركي للموقف كجهة وحيدة تمسك بالملف العسكري السوري (حالياً)، وطرد أرتال الجولاني من عفرين ومحيطها، وإعادة ترتيب المنطقة، لاقى ارتياحاً شعبياً، لكن ما حصل كشف المستور، وأبرز هشاشة الوضع الأمني والعسكري بالشمال السوري، وسهولة عبور أرتال الجولاني، والطريقة التي تعاملت معها مؤسسات الثورة, أبرزت عطب وسوء أداء تلك المؤسسات التي عجزت حتى عن اتخاذ موقف، أو إصدار بيان يعبر عن موقفها، والترهل بأداء المؤسسات السورية أحرج الجانب التركي الذي بات عليه التدخل بكل صغيرة وكبيرة نتيجة غياب أي مبادرة أو ردود فاعلة من قبل أصحاب القرار الحقيقيين، كان واضحاً أيضاً أن السيناريو الذي كان يريد الجولاني تطبيقه بمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات لا ينسجم بتاتاً مع رؤية الجيش التركي وأهدافه، خاصة بعد الإحراج التي تسبب به هجوم الهيئة ونتج عنه تغريدة السفارة الأمريكية في دمشق التي قالت فيها: "إن الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بقلق عميق إزاء أعمال العنف أخيراً في شمال غربي سوريا، داعية جميع الأطراف إلى حماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم"، والرسالة الموجهة علانية لهيئة تحرير الشام كانت رسالة ضمنية لأنقرة، وتسريبات أخرى تحدثت عن قرب صدور لائحة عقوبات أمريكية، ووضع أسماء جديدة على قوائم الإرهاب الأمريكية قد تتضمن الكثير من أسماء قادة فصائل الشمال الذين قاتلوا مؤخراً ضد الجيش الوطني تحت راية هيئة تحرير الشام المصنفة أمريكياً وتركياً على قوائم الإرهاب، وهذا الأمر سيتسبب حتماً بإحراج وغضب عارم للجيش التركي، وفق تسريبات فإن تسارع الأحداث عجلت بطلب تركي لاجتماع قريب في أنقرة يضم كافة قادة فصائل الجيش الوطني، وأن هناك قرارات قوية وحاسمة ستتخذ بهذا الاجتماع قد تشمل عزل بعض قادة الفصائل وعقوبات لقادة آخرين، وقد يتطور الأمر لعملية إعادة هيكلة وتصحيح للجسم العسكري برمته، لكن الحاضنة الشعبية لديها هواجس مبنية على تجارب سابقة، أن كل تلك الاجتماعات غالباً ما تنتهي بتكريس الواقع عبر إجراءات شكلية ترسخ الموجود، وتعيد الأمور لما كانت عليه، دون أي إجراء حقيقي أو إصلاح أو إعادة هيكلة، ومع بعض التسريبات يبدو أن ما قيل عنها خطة إصلاح ستكرس الواقع كما كان، وتعيد تجربة المجرب دون استبعاد حتى من قاتل ضد الجيش الوطني تحت راية الجولاني، وستكون أهم بنود خطة الإصلاح الجديدة هي طي صفحة الماضي (بعجرها وبجرها)، و(تبويس) شوارب بين المتقاتلين بعد (منسف) يجمع كل الكروش.

ما قام به الجيش التركي في مدينة عفرين ومحيطها كان ضرورة ملحة للداخل السوري ولاقى ارتياحاً شعبياً، فالاستقرار الاجتماعي، وضبط الفلتان الأمني، ووقف الانهيار العسكري، كلها أمور شكلت منذ فترة ليست بالقليلة مطلباً ملحاً لسكان الشمال، وهي ضرورة أيضاً للحليف التركي القادم على استحقاقات داخلية لا تحتمل المزيد من فوضى وضياع وتشتت أصحاب القرار في الشمال السوري، وتهدد كامل مناطق النفوذ التركي، والحاضنة الشعبية بالشمال كانت تأمل أن اللحظة باتت مناسبة لحملة كاملة ومتكاملة تشمل القيام بهيكلة حقيقية لكامل مؤسسات الثورة، السياسية والعسكرية والحكومية، مع ضرورة تفعيل عمل لجان الرقابة والمحاسبة التي تم حلها منذ سنوات، والمواطن السوري يسأل أيضاً وأمام ظهور الثراء الفاحش للبعض، ما الذي يمنع من تشكيل لجنة "من أين لك هذا؟"، لكن يبدو أن أحلام الشعب ستبقى أحلاماً، وأن حراب السلاح وأصحابها والمتحكم فيها سيبقى صاحب الصوت الأعلى وهو من يكتب ما كان وسيكون.

 

ليفانت - أحمد رحال

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!