-
الركود الاقتصادي المقيم
لقد حدث انقلاب بنيوي تدريجي في طبيعة النمو الاقتصادي على المستوى الكوني منذ ما يدعى «صدمة نيكسون»، نسبة إلى الرئيس الأمريكي نيكسون، الذي أبطل في مطلع سبعينيات القرن العشرين العمل باتفاقية «بريتون وودز».
وهي الاتفاقية التي نظمت عمل إيقاع الاقتصادات الرأسمالية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كان جوهرها تثبيت سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الذهب، واعتبار الدولار الأمريكي عملة التبادل العالمي، وبحيث يصبح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بمثابة المصرف المركزي الكوني الذي يتوجب عليه الاحتفاظ باحتياطات موازية من الذهب توازي أي دولارات يقوم بطبعها أو إصدارها رقمياً، والتزامه بموجب اشتراطات اتفاقية «بريتون وودز» نفسها على مبادلة أي دولارات تقدمها له أي دولة من الأعضاء في تلك الاتفاقية بما يعادلها من الذهب. وهو نموذج من الاقتصاد «المُرَشَّدِ» القائم على أن الثروة ممثلةً بتراكم لأكداس الدولارات كعملة تبادل عالمية، مرتبطة بشكل حقيقي ملموس بمعيار صادق للثروة هو «الذهب»، وبشكل يمنع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من طباعة أي دولارات أو إصدارها رقمياً دون سند حقيقي ملموس لها في احتياطات ذهب مكنوزة في خزائنه.
وفي ظل تلك الحقبة الزمنية التي امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع سبعينيات القرن العشرين، كان هناك نمو مضطرد في كل الأحياز الإنتاجية في العالم الصناعي المتقدم كحد أدنى، إذ إن الإنتاج ذي القيمة الملموسة المرتبط ببضاعة عيانية مشخصة كان الوسيلة شبه الوحيدة لتحقيق الثروة مشخصة بتراكم لعملة التبادل العالمي ممثلة بالدولار الأمريكي، وما يستبطن ضمنياً فيه من ذهب يمكن طلبه عند الحاجة من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي؛ وهو ما تمثل في واقع التوازن الاقتصادي العالمي الذي كان يقوم فيما يقارب 90% منه على إنتاج حقيقي عياني مشخص يمكن تلمسه في منتج أو بضاعة أو كينونة فيزيائية قائمة بالفعل في الممتلكات البشرية غير المنقولة، كالعقارات والبنى التحتية والخدمية وما كان على شاكلتها، وهو التوازن الذي بدأ بالانقلاب رأساً على عقب «صدمة نيكسون» السالفة الذكر، وهو الانقلاب الذي بدى جلياً للعيان في مرحلة صعود الليبرالية المستحدثة بشكلها القائم على اقتصاد السوق الوحشي المعولم في خواتيم ثمانينيات القرن المنصرم ومطلع تسعينياته.
وهو الانقلاب الذي أفصح عن نفسه بانكماش نسبة الإنتاج الحقيقي على المستوى العالمي المشار إلى توصيفه آنفاً من 90% في حقبة ما قبل «صدمة نيكسون» إلى ما لا يتجاوز 10% من مجمل القيمة الرقمية للثروة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبحيث حلّت «الاستثمارات القائمة على المضاربات المالية» والتي تدعى باللغة الإنجليزية «Financial Speculations» محل «الإنتاج الحقيقي»، وأصبحت تشغل حوالي 90% من قيمة الثروة في تلك المجتمعات. وذلك النموذج من الاستثمارات القائمة على المضاربات المالية في أسواق السندات و الأسهم و المشتقات الماليةFinancial Derivatives يمكن توصيفه بأنه نموذج من «الإنتاج الاقتصادي الخلبي الفقاعي» الذي يستمد عيوشيته من «تضخم سرطاني» لا أساس إنتاجياً له في أسهم وسندات الشركات والمؤسسات وحتى الدول التي يتم المضاربة بها، وهو تضخم ناتج بشكل مباشر عن «صدمة نيكسون» التي ألغت اقتران الدولار بسعر صرف شبه ثابت مقابل الذهب، والتزام الولايات المتحدة على عدم طبع أي دولارات بدون سند حقيقي لها في ثروة حقيقية من الذهب الذي يبرر طباعتها. وهو الواقع الذي عنى بعد «صدمة نيكسون» تمكن الولايات المتحدة من طباعة أكداس خيالية من الدولارات مستغلة «جبروتها العسكري» الذي كان قادراً على إلزام جل الاقتصادات في أرجاء الأرضين على الاستمرار في استخدام الدولار الأمريكي كعملة تبادل عالمية، وإرغامها على تحويل كل ما تنتجه من «ثروات حقيقية» قد يكون مثالها الأكثر إيلاماً في الحالة العربية هو الثروات المراكمة في سياق الفورة النفطية العربية في حقبة ما بعد «صدمة نيكسون» إلى دولارات أمريكية، وهي الدولارات الأمريكية التي بدأ الاحتياطي الفيدرالي بطبعها حسب طلب «كوكب الأرض لها»، ودون أي سند حقيقي لها في ثروة عيانية مشخصة، وباستعارة من تعبير الاقتصادي اليوناني المرموق يانس فاريوفاكيس فإن تلك الدولارات «دولارات يتم تخليقها من الهواء».
وهو طوفان الدولارات الذي وجد طريقه إلى «استثمارات في المضاربات المالية» في السندات والأسهم و القروض العقارية وما كان على شاكلتها، والتي سيطرت على الرهط الأكبر من قيمة الثروة في جلّ المجتمعات الصناعية المتقدمة، كما أشرنا إليه آنفاً، وكان من مفاعيلها المباشرة نقل الجزء الأكبر من كتلة رأس المال السائلة في المجتمعات الصناعية المتقدمة من حيز الإنتاج الحقيقي بأشكاله المختلفة إلى حيز المضاربات الفقاعية غير الإنتاجية في أسواق السندات والأسهم والقروض العقارية وما كان مرتبطاً بها، مع الإشارة الضرورية إلى أن انبثاق الفقاعة الاقتصادية للاستثمارات في القروض العقارية كان الزناد القادح لأزمة التراجع الاقتصادي العميم في العام 2008، والذي ما زالت البشرية تكابد مفاعيله حتى اللحظة الراهنة. وهو واقع ضعف الاستثمار في الأحياز الإنتاجية الحقيقية في المجتمع سواء كانت صناعية أو زراعية أو حتى خدمية الذي كان لا بد أن يفضي إلى نمو ضعيف في مشعرات الاقتصاد الصِّغَرِيِّ «Micro Economic Indicators»، وهو ما يمكن تلمسه في مشعرات تحسن حياة الطبقات العاملة ودخلها وقدرتها الشرائية، بالتوازي مع توطيد معدلات تضخم «Inflation» متواضعة في المجتمعات الصناعية المتقدمة نظراً لعدم وجود نمو اقتصادي حقيقي في المجتمع يؤدي إلى ازدياد أجور الطبقة العاملة وتحسن قدرتها الإنفاقية في المجتمع، وبالتالي زيادة معدلات التضخم في ذلك المجتمع.
وهو واقع حال يلائم الطبقات المهيمنة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع، إذ إن انخفاض معدلات التضخم هو ضالة تلك الفئات إذ إنه السبيل الأجدى والأيسر للمحافظة على قيمة ثرواتها الفلكية التي تم مراكمتها في استثمارات فقاعية ومضاربات مالية على شكل أكداس من الأرقام التي هي عبارة عن تراكم أكوام من الدولارات التي تم طبعها وتخليقها من «الهواء» كما أشرنا إليه آنفاً، والتي لا ضير من المحافظة على مستوى منخفض من التضخم للحفاظ على قيمتها الرقمية التي ليس لها سند حقيقي إنتاجي تنجم منه كان يمكن له أن يزيد من قيمتها التبادلية بشكل يوازي معدلات التضخم التي قد يؤدي إليها زيادة الإنتاج ومعدلات النمو الحقيقي الإنتاجي في المجتمع. وذلك الحال المؤوف من انخفاض النمو، وانخفاض معدلات التضخم، وتواضع نمو أجور الطبقة العاملة، وتركز الاستثمارات في المضاربات المالية الفقاعية في الأحياز غير الإنتاجية وخاصة في أسواق المال والسندات والأسهم، يؤدي أيضاً إلى تعزيز هيمنة الفئات المهيمنة على مصادر السلطة والثروة في المجتمع، وذلك بمنحها ما قد يرقى إلى حق «النقض»، والذي يدعى باللغة الإنجليزية «Veto» على أي سياسات حكومية في المجتمعات التي تهيمن عليها، ويمكن أن تؤدي إلى نمو حقيقي في معدلات الإنتاج الحقيقي في المجتمع من خلال ما يدعى «حزم التحفيز الاقتصادي»، والتي تدعى باللغة الإنجليزية «Stimulus Packages»، وذلك عبر التهديد ببيع ما تمتلكه من أسهم وسندات في أسواق المال القائمة في ذلك المجتمع، وهو ما يعني فيضاناً من «البيع» لا بد أن يؤدي حتمياً إلى انهيار «أسواق المال» في ذلك المجتمع، وهو ما يعني وفق قوانين الرأسمالية المعولمة «انهياراً افتراضياً للاقتصاد بكليته» في ذلك المجتمع، ويعني إحجاماً عن الاستثمار الضئيل فيه أصلاً فيما تبقى من أحياز إنتاجية حقيقية، والذي لا بد لكل سياسي في النظم السياسية في العالم المتقدم من إدراك أن حدوثه يعني «انتحاراً سياسياً» له ولمن لف لفه، وهو ما لا بد من تجنبه عبر «الالتزام الحديدي» بعدم اتخاذ أي خطوات سياسية أو إجراءات اقتصادية تؤدي إلى نمو حقيقي في المجتمع، ويمكن أن تؤدي بالتالي إلى تآكل قيمة ثروة الفئات المهيمنة في المجتمع، وبالتالي نقمتها التي لا يمكن تحمل عقابيلها وفق موازين الهيمنة على مصادر الثروة والسلطة في نظم الرأسمالية المعولمة بشكلها المعاصر.
وذلك النموذج من الاتفاق غير المكتوب أو المعلن صراحة بين الطبقات السياسية والفئات المهيمنة على مفاصل الحل والعقد في المجتمع من خلال هيمنتها على مصادر الثروة ومفاتيح السلطة فيه لا بد أن يؤدي في جميع المجتمعات الصناعية المتقدمة إلى نموذج من النمو الاقتصادي المتواضع الذي لا يمكن أن يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم أكثر من 2% سنوياً، وهو الحد الأقصى المقبول من جل حكومات الدول الصناعية المتقدمة، والذي في جوهره ضبط مرهف لإيقاع الاقتصاد يضمن الحفاظ على تفوق معدلات نمو ثروة الأثرياء المالية بمعدلات تفوق معدلات التضخم، والذي لا بد من الإبقاء على حد أدنى منه بحدود 2%، وبمستوى يتجاوز معدلات نمو الأجور في جل البلدان الصناعية المتقدمة التي لم تتجاوز معدلات نمو الأجور في أي منها بعد تعديلها حسب معدلات التضخم التراكمية على مر السنين أكثر من 1% في أي من دولها، وهو ما يعني عملياً تآكل أجور الطبقات العاملة بمعدلات لا تقل عن 1% سنوياً في معظم الأحوال، وهو هدف لا بد من تحقيقه دائماً في قائمة الأهداف الاستراتيجية للفئات المهيمنة على مفاتيح السلطة والثروة في المجتمع.
وهناك دور تكميلي لسعي الطبقات المهيمنة على المجتمعات الصناعية المتقدمة للحفاظ على مستوى من النمو الضعيف في المجتمعات التي تهيمن عليها، والذي يرتبط أساساً في أن النمو الاقتصادي المتواضع شرط لا بد منه للحفاظ على مستويات «مقبولة» من قبل الفئات المهيمنة على السلطة والثروة في المجتمع لمعدلات البطالة فيه، والتي لا بد أن تنخفض في حال حدوث نمو اقتصادي حقيقي إنتاجي متسارع، وهو ما قد يعزز من القدرة التفاوضية «للطبقات العاملة المسحوقة» جراء زيادة الطلب على «قوة عملها»، وهو ما قد يحفزها على المطالبة بتحسين شروط العمل، أو مكتسبات تقاعدية إضافية، أو الأخطر من ذلك كله، والمتمثل بالمطالبة بزيادة الأجور، وهو ما يمكن التعامل معه من خلال الإبقاء على معدلات بطالة تتراوح بين 10-5% في جل الاقتصادات الصناعية المتقدمة من مجمل أعداد البالغين القادرين على العمل والعطاء فيها، وهو ما يعني تهديداً يدركه كل منتسب للطبقات العاملة في تلك البلدان، ومفاده وجود «جيش من العاطلين عن العمل جاهزين للعمل بأي ما يسد رمقهم ويبقيهم على قيد الحياة»، وهو ما يشترط عملياً من كل عامل في موقعه الوظيفي «ابتلاع صوته والتفكر ألف مرة» قبل المطالبة بتحسين شروط العمل، أو المزايا التقاعدية، أو زيادة الأجور خشية أن يقود ذلك إلى طرده من العمل الذي لن يؤثر فعلياً على مصالح مشغله الذي ينتظر على أبوابه الألوف من «العاطلين عن العمل» الذين يتوقون لشغل موقع ذلك الموظف «الناشز» الذي سولت له نفسه التفكر بما يخالف مصلحة الأثرياء الأقوياء في المجتمع. وهو واقع حقيقي قائم بالفعل في جل الاقتصادات المتقدمة، و يزداد تفاقماً مع التراجع المتسارع عن كل القوانين التي تحمي العمال في تلك الدول، ووضعها في أطر قانونية معقدة مكلفة للعامل إن تفكر في مواجهة مشغله ومطالبته بتعويضات أو ما كان على شاكلتها بعد «طرده تعسفياً» من عمله «جزاء على مطالبته بالانعتاق من موازين هيمنة الأقوياء على المستضعفين»، وهو الواقع الكلياني الذي كان بنتيجته تحول الطبقات العاملة في جل الاقتصادات الغربية إلى هجين من «الطبقات الرثة» التي تخشى حتى التفكر سراً في مجابهة مشغلها للمطالبة بتحسين دخلها ومستوى حيواتها، و«طبقات وسطى صنعية» تقوم الدول الصناعية المتقدمة بالإنفاق عليها بما تبقى من مفاعيل «دولة الرفاه» لتبقيها فوق «مستوى الفاقة و الجوع المطلق»، وبشكل يبعدها عن الوقوع في شرك الخيار الوحيد المتاح المتمثل في «الانتفاض والثورة على موازين القوى السائدة»، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تخليق طبقات عاملة هلامية خلبية تخشى من ظلها، وتسبح بحمد «دولة الرفاه» و«التوازن الأشوه القائم»، وتكدح بكل طاقتها للحفاظ على مستوى النمو المنخفض والركود الاقتصادي المقيم الذي أسس له في المقام الأول.
ليفانت - مصعب قاسم عزاوي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!