الوضع المظلم
الخميس ٠٢ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الرقصُ على المواجع السورية
عبير نصر

مرّت سنواتٌ بدت وكأنها دهرٌ على بدء الأزمةِ السورية، ولا توجد إحصائياتٌ واضحةٌ لقتلى العشريةِ السوداء، لكنّ المؤكد أنها خلّفت أعداداً هائلةً من الجرحى والمصابين بإعاقاتٍ دائمة، يواجهون مصيرهم دون أن يجدوا مَن يخفّف آلامهم، ويضمّد جراحهم، جرّاء ضعف الدعم المادي والنفسي لهذه الفئةِ المهمشة، وتدهور القطاع الطبي الذي يحرم الكثيرين من العلاج، بالإضافة إلى غلاء أسعار الأدوية، وقلّة مراكز تركيب الأطراف الصناعية مقارنة بالأعداد المتزايدة، ما يفرض واقعاً مأساوياً على مُصابي الحرب.


يكابدون موتهم البطيء وهم على قيد الحياة، حيث تتنوع حالاتهم بين الإصابات الخفيفة وصولاً لبتر الأطراف والإعاقات الدائمة. وبينما يحتاجون لمراكز طبية مجهّزة وحديثة، فكثيراً ما يضطر الأطباء لبترِ أطراف بعض المصابين لعدم توافر المعدات اللازمة لعلاجهم. وأسوأ ما قد يحصل أن يقعَ الكثيرُ من الجرحى فريسةً للضغوطات النفسية، فيجدون أنفسهم غير قادرين على التأقلم مع حياة الإعاقة، وغير قادرين على الإنتاج إذا كان المُصاب معيلاً لعائلته، مما يفرض عليهم العزلة والانطواء والاكتئاب، ويؤخر تعافيهم من الصدمة النفسية التي يمرّون بها بعد الإصابة.


في سياقٍ موازٍ، أطلق النظامُ السوري في مناطق سيطرته عدّةَ برامج تخصُّ جرحى قواته، أبرزها عام 2014 تحت مسمّى (جريح الوطن) الذي يختصُّ بتأمينِ متطلبات مُصاب الحرب من الرعاية الطبية والمستحقات، بما في ذلك تركيب الأطراف والعمليات الجراحية. ولا يخفى على أحد أنّها محاولةٌ واضحة للتلويح بورقةِ (فقراء وجرحى النظام) من قبل أسماء الأسد بعد تغلّبها على ندّها الأشرس رامي مخلوف. محققة الضربة القاضية من خلال إعادةِ تفعيل برنامجٍ اقتصاديّ خاصّ بالجرحى على طريقتها، و(تصحيح) الأخطاء التي شابته، والتأكيد على أنّ ملفَّ الجرحى بات تحت الإشراف المباشر من قبل القصر الرئاسي (حرصاً على إبقاء البوصلة الحقيقية لأيّ جهودٍ تُبذل في هذا الإطار في اتجاهها الصحيح). واعترفتِ الأسدُ بوجود أزمةٍ اقتصاديةٍ عميقةٍ وأنّ الوضعَ صعبٌ، متعهدةً بتقديم منحةٍ طارئةٍ لكلّ جرحى النظام. وهو ما سبق وطالب به مخلوف في رسائله المسجلة، عندما وجه خطابه إلى بشار الأسد مؤكداً بأنه لن يتأخر عن تسديدِ المبالغ الكبيرة المطلوبة منه إذا كانت ستذهب إلى الفقراء.


في الحقيقة ما يزال استثمارُ ورقةِ مُصابي الحرب مستمراً، وفي آخر المستجدات، وبمشاركة نحو مائة من جرحى العجز الكلي، بالإضافة لمشاركةِ جرحى قادمين من روسيا والعراق، افتتحت أسماء الأسد في مدينة الأسد الرياضية بمحافظة اللاذقية دورةَ (ألعاب جريح الوطن)، التي تضمنتْ عروضاً فنية ولوحاتٍ فلكلورية شارك فيها المصابون من جميع المحافظات السورية، كتحيةِ تقديرٍ للجرحى الذين يخوضون غمار هذا التحدي بمساعدة أطرافٍ اصطناعية جلوساً، أو وقوفاً في ألعاب فردية. وقالت راعيةُ الدورةِ خلال لقائها الجرحى وفي كلمةٍ منفصمةٍ عن الواقع المأساوي: "أنا فخورة بروح التحدي الموجودة لديكم، هذه الروح التي جعلتكم لا تنكسرون بعد الإصابة، هي الروح التي جعلتكم تستمرون بنفس الثبات، وهي ذاتها التي جعلتكم تتجاوزون كلّ العثرات والعوائق".


هذا الاستثمار الرخيص كشف حقيقته "محمود أبو شحادة"، أحد مصابي الحرب الذي كتب على صفحته الفيسبوكية موجهاً الكلام لعقيلة الرئيس: "عذراً سيدتي.. بعد أن غادرتِ القاعةَ مشكورة أودّ أن أعلمك أنه قد تمّ إهانة أكثر من (250) جريح وطن فقدوا أطرافهم من قبل القائمين على هذا الحفل، وأكمل هذه المأساة المسؤولون في المحافظة، على رأسهم السيد المحافظ عندما تركوا هؤلاء الأبطال مسلوبِي الأطراف يمشون أكثر من واحد كيلو متر حتّى يصلوا الشارع الرئيسي، وأكمل المهزلةَ عضو مجلس الشعب (ر . م) عندما استوقفناه ليأخذ معه بعض الجرحى صوراً تذكارية، وكان جوابه (أنا مدعوّ للحفل فقط ما دخلني فيكم). علماً أنّ سيارته كانت تتسع لأكثر من ثلاثةِ جرحى. لا عتب على مسؤول معين إنما العتب على العضو المنتخب الذي يتباهى في مقاهي اللاذقية بعددِ أقربائه من الجرحى والشهداء وهم منه براء لأننا نعرف ماضيه".


في المقابل كشفت والدةُ أحد مُصابِي الحرب وتدعى "عواطف قبيلي" تعرَّضَ ابنها وبقية الجرحى بالساحل السوري لإهانةٍ كبرى عبرَ حبسهم ضمن الصالة الرياضية ومنعِهم من مقابلةِ أسماء الأسد، مقابل تكريم الوفد القادم من روسيا والعراق. وقالت: (نحن منعونا من الدخول مع أولادنا، والجرحى المشاركين أدخلوهم من باب آخر، وعند وصول أسماء الأسد لم ترَ سوى الشباب القادمين من دمشق، لكن جرحى الساحل تمَّ حبسهم) وأضافت: (تخيّلوا حبسوا الشباب الجرحى، هدوليك حاربوا بس هدول دواعش، بس يا عيب الشوم على بلد بتهين جرحاها وما بتقدّر تضحياتهم). وبسبب هذه الاحتفالية المُهينة وجّهت قبيلي شتائم غيرِ مسبوقة للنظام السوري وجميع مسؤوليه بسبب ما وصل إليه الحال في مناطق سيطرته، خاصة التهميش الذي يعانيه الجرحى وذووهم بعد أنْ ضحّوا بكلِّ شيء دفاعاً عن كرسي بشار الأسد مقابل ذلّ، وأي ذلّ!.


لا شكّ من نجا من موتٍ محتّم لم يسلم من الإصابةِ بشظايا قذيفةٍ أو صاروخٍ أو برميلٍ متفجر، أمطر بها النظامُ السوري المدنَ والقرى المعارضةَ لحكمه، كما ساهمت العملياتُ العسكرية في ازدياد أعداد المصابين من الجنود الذين تورطوا في هذه الحرب المدمرة ومن جميع الأطراف السورية. والمقلق حقيقةً أنّ مصيرَ الجرحى يبقى غير واضح، سواء من ناحية الجهة الرئيسية التي تتولى تقديم الرعاية الطبية الطويلة، أو وضعهم الحالي من حيث ما يتمّ تقديمه لهم، تحديداً العلاج الفيزيائي والنفسي الذي يعتبر جزءاً أساسياً في التراتبية العلاجية للمصابين، خاصة المبتورة أطرافهم. إذ يحتاج مُصابو الحرب إلى دعمٍ معنوي لإعادةِ الثقة بأنفسهم، والتخلّص من شعورهم بالنقص، ومحاولةِ تأمين فرص عمل تلائم إمكانياتهم وطاقاتهم، وتمكّنهم من تقبّل ذاتهم، وممارسةِ دورٍ فعالٍ في المجتمع.


الجدير ذكره أنه جاء في القانون الدولي العديدُ من القواعد التي تنصُّ على وجوبِ معاملة الجرحى معاملةً إنسانية، منها اتفاقية جنيف في المواد (3-12-15)، التي تنصُّ على عدمِ تعريضهم للتعذيب وإخضاعهم للتجارب، وتأمينِ الرعاية اللازمة لهم دون تمييز، كما نصّت "اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة" على أنّ إعادةَ التأهيل حقٌّ أساسي من حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، بغضّ النظر عن نوعِ ودرجةِ الإعاقة. وفي المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري تسير الأمورُ دائماً عكس التيار، حيث تُقدَّم الخدماتُ والرعايةُ الطبية للمصابين بشكلٍ خاص ممن لهم صلة بمسؤولين في الحكومةِ السورية ودوائر الدولة، بينما يواظب بشار الأسد على القيامِ بزياراتٍ مكوكية إلى منازل الجرحى في بعض القرى المسحوقة، واعداً إياهم بمتابعة أوضاعهم الصحية والمادية، والنيّة المبيّتة بالطبع هي الترويج لنظامه على أنّه لا ينسى من أصيبوا في المعارك دفاعاً عن عرشه المقدس. وما زاد الطين بلّة إصداره قانوناً منح بموجبه العسكريَّ المصاب حقّ الاكتتاب على سيارةٍ سياحيةٍ واحدة محلية الصنع، معفاة من كلّ الضرائب والرسوم، بينما معظم مُصابِي الحرب ينتمون إلى الفئة المعدمة العاجزة عن تأمين أدنى مستلزمات الحياة اليومية، يواجهون مصيرهم وحدهم وسطَ غيابِ ثقافة الاعتراف بالشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، ما يزيد من معاناتهم ويقلّل فرص شفائهم.


ليفانت: عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!