-
الرئيس الفرنسي وخطاب “الأزمة”.. الإسلام بين الانسداد السياسي ومخاطر الانعزالية
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حول أنّ الإسلام “دين يعيش في أزمة”، العديد من ردود الفعل والجدل المحتدم بين العديد من الأوساط السياسية والدينية، لاسيما داخل المؤسسات الدينية الرسمية بمصر، والتي تعاملت مع تلك التصريحات باعتبارها تطعن في الدين وثوابته.
بيد أنّ سياق تصريحات الرئيس الفرنسي كانت تدور حول الإسلام الراديكالي الذي استوطن دول اوروبا، ومن بينها، فرنسا. وأحد أشكال الجدل والصراع، إنما يكمن ليس فقط في التنافس السياسي الذي يتشكل بين الإسلام ومفاهيم وقيم “الجمهورية” الفرنسية، لكن يتأسس من خلال خصوصية العلمانية في فرنسا، التي تواجه مخاطر الصعود الإسلامي المتشدّد والراديكالي، وأدلجة الدين، من جهة، وخصوصية الإسلام الذي تتولد من داخله نزعات عنف ومقاومة للاندماج في سبيل الانعزالية والانفصال.
حديث ماكرون في وحدته الموضوعية، صنع سياقاً أشار فيه إلى بنية الأزمة ومضونها، وأرجعها إلى مسار التوترات بين الأصوليين والمشاريع الدينية السياسية، لافتاً إلى أنّ باريس سوف تتصدّى إلى “الانعزالية الإسلامية” التي تسعى لإقامة “نظام موازٍ” و”إنكار الجمهورية”، في معرض حديثه عن ظاهرة “تحول الأحياء إلى مجتمعات منغلقة”.
من الصعوبة بمكان النظر إلى تلك التصريحات التي صدرت، في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، خارج سياق فهم مواجهة خرق النسق القيمي للمجتمع الفرنسي، ومقاومة ما أطلق عليه “الانفصالية الإسلامية” و”الإسلام الراديكالي”، وذلك لصالح تشييد الإسلام الفرنسي الذي يتماهى ويتفق مع منظومة القيم العلمانية للجمهورية الفرنسية، ويندمج مع بقية مكونات المجتمع، دون تدخلات من قبل أطراف خارجية.
بلور الرئيس ماكرون خطته بحيث تضمنّت خمسة محاور؛ تتمثّل في عدم استغلال المرافق العامة في الممارسات الدينية، وفرض رقابة على الجمعيات الدينية، وفقاً للقانون 1905 الخاص بفصل الدين عن الدولة، وإلغاء التعليم في المنازل المنتشر في المناطق التي يقطنها مسلمون فرنسيون من أصول مختلفة، والحدّ من الاستعانة بالأئمة من الخارج؛ لا سيما من الجزائر والمغرب وتركيا، مقابل التوسّع في تكوين أئمة من الداخل، يؤمنون بالقيم الفرنسية، وفهم أفضل للإسلام وتاريخ المسلمين بحسب المفكر التونسي، يوسف الصديق، الذي أشار إلى أهمية تلك النقطه داخل منظومة وخطة ماكرون عند زيارته له في تونس، وهي المحاور التي سوف تصاغ جميعها في قانون، لجهة توفير قوة إلزامية للسلطات المحلية والمركزية لتطبيق تلك السياسة، وتسعى السلطات الفرنسية نحو إقرار ذلك في منتصف العام القادم.
وربما تلك النقاط ليست بطرح جديد، فقد رغب في تنفيذه عدد من الرؤساء في فرنسا، وحال بينهم وبين تحقيقه سياق السياسة الدولية، آنذاك، والتي ألمح لها ماكرون في مناسبات متفاوتة، خلال الفترة الماضية، لاسيما بعد الاعتداءات على المجلة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للرسول محمد.
الرئيس التركي، رحب طيب أردوغان، لم يكن ليفرّط في تلك المساحة الإستراتيجية التي منحه إياها ماكرون بحديثه عن الإسلام كدين، ولم يحدّد هدفه الرئيس بمهاجمة واستهداف الإسلام الراديكالي، ليضع كل مفردات الخصومة والصراع السياسي فيما بينهما داخل الوعاء المقدس، كما هي عادته، ويصف تصريحات الأخير باعتبارها “وقاحة” و”قلة أدب”، ومضيفاً أنّ ماكرون “يهاجم الإسلام ليحاول التغطية على أزماته في الداخل وسوء وفشل سياساته”، بحسب تعبيره.
تصريحات أردوغان التي لا تختلف في صياغتها ومضونها وتعبيراتها عن اشتقاقاته اللفظية السابقة، عمدت إلى توظيف الحدث في إطار الخصومة والصراع السياسي المباشر، فيما بين أنقرة وباريس حول ملف شرق المتوسط، والذي يتمركز حول نقطتين رئيستين؛ تأتي الأولى كون أردوغان يقدّم نفسه كزعيم للأمة الإسلامية وباعث نهضة الدولة العثمانية، فضلاً عن كون أردوغان الزعيم والراعي الأول لكافة تنظيمات الإسلام الراديكالي وميلشيات المرتزقة والجماعات الجهادية. وتأسيساً على كل ذلك، لم يكن أردوغان يستطيع الصمت أمام تصريحات ماكرون.
استقرّت بعض التحليلات كون الرئيس الفرنسي يحاول أن يتجاوز اليمين الفرنسي، المناهض للإسلام، من خلال تلك الصياغات التي تبدو في ظاهرها تنسجم مع ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتغذّي الصراع مع المسلمين في البلاد الأوربية، غير أنّ تلك الآراء تتجاهل حقيقة مؤكدة حتى في المجتمعات العربية الإسلامية، كون جماعات الإسلام الراديكالي سببت أزمات عنيفة داخل نسق تلك المجتمعات ومنظومتها القيمية منذ نشأة الجماعة الأم “الإخوان المسلمين”، في نهاية عشرينات القرن الماضي، وبداية موجات الهجرة نحو مجتمعات بديلة في عواصم عربية وأوروبية، وكذا الولايات المتحدة. وهو ما حدث تحت تأثير عدة عوامل سياسية، ووسط سياقات إقليمية ودولية، ساعدت على نمو تلك الجماعات، وقدمت لها كافة سبل الرعاية والدعم المادي واللوجيستي، بحيث تضمن لها الدعم والاستقرار والنمو الأفقي والرأسي.
تستدعي تصريحات الرئيس الفرنسي عدة أطروحات خاصة فيما يتعلق بما جاء بنص خطابه حول راهنيه أزمة الدين الإسلامي، وهي ما تنطوي على إشكالية الدمج والتعددية للأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية، وذلك في ظل الحضور الطاغي لعناصر الإخوان المسلمين، الأمر الذي يستدعي دوماً نظرة سلبية من جانب المؤسسات السياسية، التي تعيش في ظلّ الحيطة من تعاظم أفكار التطرّف والإرهاب في المجتمعات الغربية.
وعليه، فإنّ محاولات ماكرون تضمين جزء من واقع المسؤولية على السلطات الفرنسية، من خلال تحول بعض الأحياء إلى مجتمعات منغلقة على ذاتها، لا ينفي بأيّ حال من الأحوال ضرورة أن تنهض كافة المؤسسات المعنية بتحديد موقفها الواضح والحاسم من تيارات الإسلام الراديكالي، وكذا دعوتها المتجددة لاستخدام العنف وطرح مشروعية فقهية نحو كراهية الآخر وتصفيته.
وإلى ذلك، لا يمكن فصل خطاب الرئيس الفرنسي عن واقع الأزمات الإقليمية والدولية، والتي تتقاطع بصورة واضحة ومباشرة مع استثمار وتوظيف الدين في الصراع القائم بين تركيا وإيران، من ناحية، ومحور القاهرة- أبو ظبي- الرياض، من جهة أخرى؛ الأمر الذي يستلزم معه حتمية إعادة هيكلة الخطاب الديني، وتحريره من مقولات الإسلام السياسي وتنظيماته.
وفي الوقت ذاته، ضرورة أن تتخلّى النظم السياسية في تركيا وقطر عن رعاية ودعم الجماعات المتطرّفة وتغذيتها، مادياً ولوجيستياً، ناهيك عن استثمار حضورها في الخصومات السياسية، كما هو الحال مع القاهرة والتحرشات العسكرية، في ليبيا وسوريا واليمن والعراق.
رامي شفيق
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!