الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحرب الديمغرافية في سوريا والمنطقة
عمار جلو

منذ اختطافهم للثَّورة الشعبية في إيران، لا يتوانى ملاليها عن "تصدير الثَّورة" المطّعمة بمبدأ "ولاية الفقيه" التي ابتدعها "كبيرهم"، لذا تم دعم الحركات الشِّيعِيَّة القاطنة في المحيط العربي السني تحت يافطة "المظلومية"، إضافة لتخليق جيوب موالية لها، مع تسليحها ودعمها سياسياً ولوجستياً، ما أنتج دولة داخل الدولة.

بعد الغزو الأمريكيّ للعراق وثورات الربيع العربي وما أحدثاه من فوضى في المنطقة، وسّعت إيران مفهومها للأمن القومي إلى خارج حدودها، وارتأت أنّ الفرصة مواتية لتغيير ديموغرافي عميق يضمن لها الأمن والنفوذ في المنطقة على المديين المتوسط والبعيد، ما يصّعب مواجهته في حال استقرار الظروف الأمنية والسياسية للمنطقة، نتيجة بناء مصدّات ديمغرافية مذهبيَّة وجغرافية خادمة للأمن القومي الإيرانّي.

تُعرّف الديموغرافيا على أنها علم السُّكَّان، والسُّكَّان (الشعب) هم ركيزة الدول وعمادها، وكلما زادت المشتركات الثقافية والحضارية للشعب، متقاطعة في موروث دينيّ وقوميّ موحَّد، زادت نسبة التعايش السلمي، والاستقرار السياسيّ لطوائف الشعب وقوته، لأنّ قوَّة المجتمع أهمّ من قوة الدولة، بحسب الفكر السياسي، وعلى النقيض من ذلك، كلما زادت الهوة بين الشعب في اللغة والدين والثقافة والموروثات الدينية والقوميَّة والحضارية، زادت نسبة القلاقل السياسيَّة والطائفيَّة، مع إمكانية تصنيع ولاءات عابرة للحدود، واستغلالها من قوى إقليمية ودولية تسعى لتفكيك المجتمع وتفريغ السَّكان، ليتثنّى لها الهيمنة أو التوسُّع أو إملاء القرارات.

تقوم الحرب الديمغرافية على تغيير ديموغرافْيَا السُّكَّان، بأن تستبدل مجموعات شعبية غير موالية لها، بمجموعات شعبية موالية لها، ثقافياً وفكرياً وسياسياً، وهو ما تمارسه طهران في الشام والعراق وغيرهما من البلدان التي امتدّت لها المخالب الإيرانية.

تنظر طهران لدمشق نظرة تاريخية مِلؤها الثأر، والضعف أيضاً، إذ تختلف سوريا عن جارتيها الشرقية والغربية بقّلة المكون الشيعي فيها، الحامل للمشروع التوسعي الإيراني (ثورتا الشعبين العراقي واللبناني عام 2019 هزت هذا الأساس)، لذا فإنّ التغيير الديموغرافي فيها يعتمد على استبدال مجموعة سكانية غير موالية بمجموعة أخرى موالية، أو بنشر المذهب الشيعي والفكر الولائي للفقيه أو أحدِهما.

تستند السياسة الخارجيَّة الإيرانيَّة على أن نظرية الحكم والقواعد الحاكمة المنطلقة منها إقليمية عالمية، قام شِقها العَقَدي على نظرية "ولاية الفقيه" الخمينية، أضاف لها محمد جواد لاريجاني، رئيس لجنة حقوق الإنسان القضائية الأسبق، شقاً سياسياً بموجب نظريته المسماة "أم القرى"، والتي تتضمن:

- تشكيل حكومة إسلاميَّة عالمية موحّدِة للدول الإسلاميَّة، تكون إيران مركزها.

- يكون للوليّ الفقيه سلطة الولاية على الأمَّة الإسلاميَّة بعد السيطرة عليها.

تُدرك إيران أنّ مشروعها التوسُّعي قد ينجح مرحلياً إذا اكتفى بالتمدُّد السياسي، لكن ديمومته مرهونة بالتغيير الهُوِيَّاتي والديموغرافي على الأرض، إذ حكمت الدولة الفاطمية مصر قرابة قرنين لكنها زالت وبقيت مصر سُنِّيَّة، في حين أنّ الدولة الصفوية استطاعت الحكم والسيطرة وإقامة دولة شِيعِيَّة على أرض سُنِّيَّة (شافعية أشعرية) ما زالت على تشيّعها.

تتوسط سوريا "الهلال الشيعي" الواصل إيران بالبحر المتوسط، لذا عملت إيران على تغيير ديموغرافي شامل في سوريا، بهدف ضمّها للحزام الديموغرافي الإيرانيّ، خلقت الثورة السورية فرصة مواتية لتسريع المخطط الإيراني نتيجة ضعف النظام وارتهانه لطهران.

فلم تنظر إيران إلى الثَّورة السُّوريَّة من منظور مردودها على توازن القوى الإقليمي، ولكنها تعاملت معها بمنطق الازدواجية والاستغلال البراغماتي، فإيران وإن رفضت الثورة في الظاهر، فإنها في الواقع استفادت منها لإضعاف النِّظام السوري وإحلال الحسم الديمغرافي بموجب خطَط وآليَّات أهمّها:

- مصادرة الأملاك التي قام بها النِّظام بموجب المادَّة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، والتي تم توزيع أو نقل ملكية بعضها لعناصر تنتمي لحزب الله اللبناني.

- تهجير السكّان الأصليين بمجموعة من الأساليب التي تصب كلها بالتهجير القسري، كالاعتقال والقتل والخطف والتعذيب والحصار والترحيل وصولاً للقصف العشوائي.

- إحراق الوثائق الرسميَّة والمقرَّات الحاضنة للوثائق القوميَّة الخاصة بممتلكات المواطنين، حتى لا يتبقى أيّ أثر لحقوق المُهجَّرين بعد عودتهم.

- التجنيس المباشر: إذ جنَّس النِّظام الأسدي آلاف الأفغان والإيرانيين والعراقيين وغيرهم ممن استقدمهم الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا.

- التبشير ومَأْسَسَة النشاطات الدعوية: فقد نشطت الحلقات الدعوية للمذهب الشيعي ضمن الأحياء والمدن الواقعة تحت النفوذ الإيراني والمليشيات الدائرة في فلكه.

- شراء العقارات: وهو ما سمح لإيران بالتغلغل داخل البنية العقارية السُّوريَّة، بموجب قوانين تم إصدرها لتسهيل شراء العقارات، كالقانون 25 لعام 2013، فأسَّست السفارة الإيرانيَّة في دمشق حياً سكنياً في منطقة المزة، وهو حيّ إيرانيّ كامل.

يعتقد النِّظامان، الإيراني والأسدي، أنّ الحرب، رغم كلفتها العالية، فإنها ستضمن ترميم النِّظام لعشرات، وربما لمئات السنين القادمة، بعد تغيير ديموغرافيا الدولة، وتخليق ولاءات سكانية ضخمة. ويعتقد النِّظام الإيرانيّ أنّ الحرب ستضمن له الدخول إلى العمق السوري، ديموغرافياً ومجتمعياً وسياسياً واقتصادياً، ما يحوِّل سوريا من حليف سياسيّ واستراتيجيّ إلى تابعٍ ومنصهر في الدولة الإيرانيَّة، لأنّ طبيعة أي حرب أن يعقبها انسحاب كلّ الميليشيات المسلَّحة، فأرادت إيران أن يكون مقاتلوها جزءاً من الدولة السُّوريَّة الجديدة بعد الحرب، ولبنة مستقبلية من مكوناتها الثقافية والديموغرافية والعسكرية.

سعت إيران لاستثمار ديموغرافي في سوريا، حيث تَعَتبر الدولة السُّوريَّة عمقاً استراتيجياً للأمن القومي الإيرانيّ، وهو ما عبّر عنه مهدي طائب، قائد مقر "عمار" الإيراني في عام 2012، من خلال الحديث عن أهمِّيَّة نظام الحكم في سوريا، فبعد أن وصف سوريا بالمحافظة الخامسة والثلاثين، اعتبر "طائب" أنهم لو احتفظوا بسوريا يمكن استعادة خوزستان، ولكن "لو خسرنا سوريا فلن نتمكن من الاحتفاظ بطهران".

 

عمار جلو

ليفانت – عمار جلو

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!