الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الجلاء في عهد الاستبداد
آدم قدرو  

تختلف التسميات بين يوم الاستقلال (الولايات المتحدة الأمريكية 4 تموز 1776) أو يوم الباستيل (كما في فرنسا 14 تموز1789) أو اليوم الوطني أو عيد الجلاء (في سوريا 17 نيسان 1946). وهنا لسنا بصدد الاختلاف في المسميات وسيرورات تشكيل الخطوة الأولى في تكوين هوية قومية/ وطنية في الخيال السياسي المجتمعي، أو لماذا تمت تسميته في سوريا عيد الجلاء وليس عيد الاستقلال رغم الكتابات العديدة التي تناولت هذه الجزئية في التحليل والبحث.

لكن كل هذه التسميات متشابهة في الدلالة، إذ تشير ليوم تحتفل به الشعوب والحكومات بمناسبة ذكرى تحررها واستعادتها لأرضها وسيادتها من احتلال أو وصاية خارجية، وبهذه المناسبة قد تقام الاحتفالات والكرنفالات والعروض العسكرية، في البلد وسفاراته في بعض عواصم العالم، كالاحتفالات الفرنسية، أو أن يجتمع الأمريكيون تحت راية العلم بوصفه رمزاً جامعاً دون الخوض في تناقضات السياسة المرحلية لتتحول المناسبة إلى ما يشبه الكرنفال يعمّ كل أنحاء الولايات المتحدة مترافقاً بإطلاق الألعاب النارية وحفلات الشواء (وإن خرج الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب عن هذا العرف بإضافة عروض عسكرية).

أما في الهند، على سبيل المثال، يتم في 26 تموز بيوم الجمهورية الاحتفال بالطائرات الورقية، والتي ترمز لحرية الهند واستقلالها، وتبدأ عروض ثقافية، وتزين جميع الشركات الخاصة والمحلات التجارية، ومثل أغلب دول العالم هو يوم عطلة وعيد للشعوب.

يمكن القول إن عيد الاستقلال، أو تحت أي مسمى كان، هو اليوم الذي بدأت فيه الأمة بترتيب أوراقها، لبناء الدولة وخلق هوية واضحة المعالم ودستور يناسب ظرفها التاريخي وتركيبة سكانها وتطورها الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وهو مناسبة لتذكير الأجيال الحالية بتضحيات الأجيال السابقة وبالدماء التي سالت لبلوغ هذا الهدف. أي خلاصة القول لعيد الاستقلال باختلاف تنويعاته قيمة رمزية هائلة في حياة الأمم.

في بلاد "الطبل والدبكة"، وهذه التسمية لا تخص بلداً بذاته، بل أي بلد تحكمه سلطة مستبدة متمثلة في شخص رئيس أو ملك أو أمير أو سلطان، وإن تفوق أحدهم على الآخرين من زملائه المستبدين، لا يشعر المواطن بعيد الجلاء إلا إذا كان موظفاً حكومياً.

في سوريا مثلاً، كانت ذكرى الجلاء عطلة رسمية وكذلك 8 آذار ومثلهما 16 تشرين الثاني و6 تشرين الأول، أما 7 نيسان كنا نحتفل في ساحة المدرسة نرفع صور القائد الراحل قبل أن يرحل وأعلام سوريا وحزب البعث في يوم أصعب من أيام الدوام على الكادر التدريسي الذي يرقص بحماس (المدير ونوابه والمعلمات وأمانة السر والمستخدمون) وأمتع من أيام العطلة بالنسبة لنا كتلاميذ في الابتدائية.

ولطالما اختلف زخم التغطية الإعلامية للأحداث التاريخية السورية التي اعتمدتها السلطة نقاط تحوّل في تاريخها الرسمي للهوية السورية، فلم تكن تقاد الجموع إلى حلقات الدبكة إلا في الخريف، ولا يظهر رأس النظام ليلقي كلمة في يوم الجلاء بل بذكرى انقلاب 16 تشرين الثاني وذكرى حرب 6 تشرين الأول الذي هو يوم مولد حافظ الأسد، هذه الحرب ارتبطت بأذهان السوريين بعبارة "ألف حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة".

كان الأمر أشبه بتكريس هويةٍ، الأسد هو مؤسسها وفاعلها الوحيد، لنجد أبواق السلطة السورية تصرخ على قنواته الرسمية بأن سوريا بلد عمره سبعة آلاف عام، وبعد دقائق يقول البوق نفسه بثقة عارمة: "القائد المؤسس" و"سوريا الأسد". عمل النظام السوري عبر حقبتي الأسد الأب والابن على نسف كل ما يمكن أن يفخر به السوريون من قبله، وربما لكونه عاجزاً عن نسب حضارة تدمر لإنجازات الحركة التصحيحية، وإثبات أنّ الملكة زنوبيا من القرداحة، ربط اسم المدينة بسجن هو رمز للقهر والبطش والإعدامات الميدانية والموت المجاني، وما إن يسمع السوري كلمة تدمر حتى يقول "الله يبعدنا عنها"، محاولاً خلق قومية سورية تناسب استبداده وطغيانه ولا خالد فيها سواه، وإنجازاته الملحمية التي ترقص في ذكراها الحشود دون وعيّ حقيقي لما تمثله هذه الذكرى أساساً.

وأخذت هذه الهوية الرمزية منحى ماديّ مع تثبيت تماثيل وصور الأسد في الشوارع والساحات العامة والجامعات والمشافي وأسماء المنشآت الرياضية والصالات الاستهلاكية والشوارع حتى أسماء الجامعات، مثل تشرين في اللاذقية والبعث في حمص، أما سوريا ما قبل الأسد تم اختصارها بسوريا زمن الإقطاع البغيض والمحراث القديم. لم تظهر سوريا إلا مع مجيء مخلصها، هذا الثابت الذي لم يرغبوا أن ينساه أحد.

المستبد يريد شعباً بلا ذاكرة، أو بدقة أكثر يريد صنع ذاكرة للشعب، تبدأ به، ولا تنتهي لأنه يظن أنه باق إلى الأبد. السبب الذي جعل ديكتاتور ليبيا السابق ينقل رفات القائد عمر المختار، نفسه الذي جعل احتفال السوريين بعيد الجلاء باهتاً هزيلاً.

بعد آذار 2011 تغير الحال في سوريا وانفجر الشعب بعد عقود من القمع والاستبداد ومحاولات التدجين، ورغم كل المآسي التي حصلت والموت والدمار و"جلاء" السوريين عن منازلهم وأرضهم ما زالوا ينتظرون يوم استقلالهم عن هذه العصبة الحاكمة ليستردوا قرارهم السياسي وحقوقهم المسلوبة، وربما ليحتفلوا بعيد جلاء واستقلال آخر.

ليفانت - آدم قدرو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!