الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الثقافة في زمن عولمة الاستهلاك
أحمد شحيمط

الثقافة ليست واحدة، والتنوع الثقافي محمود في تعميم مفهوم النسبية والخصوصية ضد الكونية والمشترك، لا تقدم الثقافة نفسها أنها مطلقة وكاملة، الثقافة اليوم صناعة بامتياز تتخطى المنطق الكلاسيكي في المكتسب المستمر بالتربية والتلقين، تتماهى مع السياسي والاقتصادي، تعيد إنتاج ذاتها أو تتلون بألوان العصر، وما يرمي إليه الفاعل والمنتج للخطاب الخاص بهيمنة الفكر الليبرالي، علماء الاقتصاد وخبراء في العلوم الإنسانية والدراسات الفلسفية يرصدون اليوم مهمة الثقافة في زمن الاستهلاك، العولمة وتحرير الأسعار، الليبرالية الجديدة وعصر رأس المال، لعبة الكبار من صناع القرار السياسي، ومهندسي السياسة الدولية يدركون خفايا التجارة وطرق الهيمنة ، تقسيم العالم نتج عنه شرخا كبيرا بين الرابحون والخاسرون من النظام العالمي الجديد، نهاية الحرب الباردة وبروز القطبية الأحادية، وهيمنة الغرب على القرار العالمي، تلك العولمة التي جاءت نتيجة اتفاقيات ورؤية استباقية في إبقاء الهيمنة، وانتشار معمم لأخطبوط الصناعات الغربية في ميادين متعددة. نحن نعاين الآن موجة من الحركات الاحتجاجية والرفض المطلق للثقافة الأحادية والسيطرة، من اليسار واليمين، والأصوات المنددة بسرطان العولمة وثقافة تدجين المشاكس، وترويض المشاغب، وتذويب المتمرد من خلال الطبع والتطبيع، اتهامات مشروعة للدولة القومية في تنصلها من حماية الفقراء وحماية الاقتصاد والمجتمع من الهشاشة والابتلاع .                                                                                                                                      


بقي العالم وفيا للتنوع الثقافي واحترام الثقافات الإنسانية، ضد النزعة المركزية الغربية صارت بعض الأقلام الغربية تكشف عن غنى الثقافات المليئة بالقيم والعادات والأساطير.


حاجة العالم للتثاقف والاعتراف بالآخر، هويات متعددة تهاجر من مكان لآخر وتستقر، والهويات القاتلة نتاج للصراع العرقي والمذهبي ، والهويات المتجانسة دليل على التعايش، وتكريس ثقافة الاختلاف والاعتراف بالتنوع داخل البلد الواحد، العولمة عندما قدمت نماذجها للعالم كانت ترمي بسياستها نحو تعميم النموذج الليبرالي في الاقتصاد والسياسة، واحترام كلي للثقافات، قوة العمل وإنتاج السلع ووفرتها في الأسواق العالمية، تنوع في التبادل التجاري حتى يعم الرخاء العالم، وتذوب الحدود ويربح الكل، تلك وسيلة فعالة للقضاء على الصراعات والنزاعات بأنواعها، عندما يهيمن الرخاء ويعم السلام، ويصير العالم قرية كونية، طموح الفقراء المساواة في الحقوق مع الأغنياء، نصيبهم من الأرباح ضرورية من خلال الضرائب، وقوانين دولة الرعاية، أحلام العالم الثالث تقريب المسافات بين الدول الرأسمالية الغنية والدول المنتجة للمواد الخام. تعميم الفائدة على الجميع عندما يصير العالم بدون حواجز وحدود جمركية، ولا قيود في العبور والسفر، أنماط العيش تتبدل، تحولات في رغبات الناس، من نزعة الانكماش ونكران الذات إلى نزعة الاستهلاك وتحقيق الرغبات. تمتلك أو لا تمتلك جوهر النزعة الاستهلاكية في الغرب، الصناعة تنتج المواد الاستهلاكية، والدولة تجلب الموارد الطبيعية، عجلة الصناعة والإنتاج لا تتوقف، الشركات العملاقة العابرة للحدود والمقاولات التي تفننت في جمع البيانات، ودراسة أنماط السلوك الاستهلاكي، تمكنت بالفعل من تحسين الجودة والرفع من الإنتاجية، وتحفيز الناس على الاستهلاك بتقديم تسهيلات القروض والعروض الممكنة والإعلانات.


للاستهلاك أهمية رمزية في المجتمعات المعاصرة. شعور الذات بالارتياح لما يوفره المال من إمكانية للإنسان في اقتناء المستلزمات الضرورية، والإقبال على الحاجيات الثانوية والكمالية، الإشهار والدعاية والإعلام، صورة أخرى للمدنية المعاصرة. تنميط الثقافة، وتعميم نماذجها وفق ما يتلاءم مع السوق والأذواق المختلفة. ماركات مسجلة وصيحات الموضة، ألوان في عالم الأناقة والجمال، تقنيات الإخراج السينمائي، واليات الإنتاج الفنية، تحولات في الصورة، وتعديل كبير على الجسد من خلال الوشم وعمليات التجميل، حتى ينسجم ومقياس الثقافة، لوحات إشهارية في كل مكان، الكائن الآلي وما يقدمه من خدمات، عوالم التقنية الذكية، ومحلات البيع والشراء، شاشات عملاقة في الشوارع المزدحمة، ألوان جديدة من الموسيقى، غرائب العمارة وفن الهندسة في عالم ما بعد الحداثة، بداية القضاء على الأسواق الشعبية في البلدان النامية، والتحول نحو الأسواق الجديدة، اندثار الصناعات المحلية ونسخ منتجاتها، صناعة العدو الوهمي، علاقات هشة وعابرة معيارها المنفعة، إشعال الحروب السريعة والقصيرة، تصدير الأسلحة وتجريبها في ميادين القتال، انتعاش في تجارة السلاح والدواء، إنهاء التهديد والوعيد من خلال التنازلات، وتبادل الصفقات التجارية . إنه منطق الأقوياء الذي يهيمن على نسبة كبيرة من أرباح التجارة العالمية .                                                               


نحن نعيش في عالم تتسع فيه الهوة بين الفقراء والأغنياء، ويتواجد فيه العديد من الأغنياء الذين يعيشون براحة تامة، إضافة إلى بليون جائع يشكلون سدس سكان الأرض(1)، تناقضات صارخة بين الاستغلال والاستنزاف، والتعميم والشمولية، والقضاء على الفوارق في الخطاب الليبرالي، ومن يدافعون عنه، معاينة التزايد المفرط للفقراء، واستحواذ قلة من الأغنياء على الاقتصاد العالمي، سوف تجد نفسك رقما في عالم المستهلكين .


تباع البيانات الشخصية للشركات، تتهافت عليك المؤسسات البنكية للقروض السكنية وتكوين المقاولات، تشيد الشركات العابرة للقارات فروعها في البلدان النامية، ويعمل الخبراء في التجارة والاستهلاك على تقديم دراسات ميدانية عن العقلية الاستهلاكية، ومحاولة تبديلها بكل الوسائل، تتحول العولمة الاقتصادية نحو السياسة والثقافة.


عولمة التبادل التجاري إلى عولمة الأساليب الممكنة في الاستهلاك، والإقبال على شراء ما يجود به السوق من منتجات، عصر رأس المال وهيمنة اقتصاد السوق، وتراجع الفكر المضاد للخطاب الليبرالي في الحد من الهيمنة عند تفعيل الرقابة، تحولات جمة من الحياة الصلبة والحداثة بكل آلياتها الكلاسيكية، في وظائف الدولة الحديثة للحد من الفوارق، والثبات على القيم كالحق والعدالة والمساواة، وحماية حياة المستهلكين إلى الحياة السائلة واختزال الإنسان في هواه وماديته .


هكذا يعبر عالم الاجتماع زيجمونت باومان عن الإنسان المعاصر الذي يعيش بدون بوصلة، بلا صفات، سوى ما تفعله الآن البنيات المتحكمة في ثقافته ونمط وجوده، إنسان بلا روابط، تعبير عن هشاشة الوجود الإنساني. الإنسان الاقتصادي والإنسان الاستهلاكي، استبدال الهوية المشتركة بالمصالح الدائمة، والعلاقات الإنسانية المتينة بالعلاقات القائمة على التعاقد، وفسخها في أي لحظة معينة بانتهاء المنافع، إنسان سائل في زمن اللايقين كما يقول .                                                                      


إنسان الحضارة كما يقول فرويد مهذب، ويسعى للتحكم في شهواته، نوع الإنسان الذي يسعى للبحث عن التوازن بين الرغبات البيولوجية والقيم الأخلاقية والاجتماعية . قوة الذات في الحد من الجموح والاندفاع . وإنسان الأديان الداعية للاعتدال بدون إسراف وتقتير،عالمنا يعج بأنماط السلوك الاستهلاكي. نزوع الناس نحو الاقتناء من خلال محلات تجارية كبرى .


كل ما نراه من إشهار يزيدنا لهبا، ويشعل فينا نار الرغبة لاستهلاكه ، في ثقافة استهلاكية مثل ثقافتنا، فهي ثقافة المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري، والاستعمال السريع، والإشباع اللحظي، والنتائج التي لا تحتاج إلى جهد طويل، والوصفات السهلة، والتأمين ضد المخاطر، وضمان استيراد النقود المدفوعة(2)، ثقافة أحادية المصدر، صناعة مفبركة في مختبرات الشركات العملاقة، وإستراتيجية أصحاب رؤوس الأموال، تدجين الإنسان وإفراغ قيمه الأصيلة من مضمونها، واللعب على العامل النفسي في إرغام الفرد على الاستهلاك، وتبني سلوك جديد يساير إيقاع الحياة السائلة .


 


يتحول الاستهلاك إلى غاية للوجود الإنساني. إنه ممارسة مثالية وتقليد للحياة الجديدة ، نوع من الموضة والمباهاة ومقياس للتحضر والرقي. استهلاك يزيل الحاجة والخصاص . ويبعث في النفوس نوع من الارتياح . ثقافة التسليع أنتجت إنسان السوق بمواصفات الرأسمالية ، تنميطه من الداخل، وإفراغه من البعد القيمي والروحي، وإشاعة النزعة الفردية من خلال الجزم على قيمة الفرد، والتحرر من هيمنة وسطو الجماعة المتماسكة. أصبح هذا النوع من الثقافة يهيمن على كل مفاصل الدولة، وتغلغل في الوعي الفردي والجمعي، كما أصبح هم الجميع تحقيق الرفاهية والنزوع نحو التملك أكثر بدون كوابح ولا موانع. الكسب بالأساليب المشروعة أو غير المشروعة.


اللاعبون الثلاثة في لعبتنا : السوق والسلطة السياسية والإلزام الأخلاقي(3)، تقرر السياسة مجموعة من القرارات والصيغ القانونية في تحالفها مع الاقتصادي لخدمة أجندة رجال الأعمال، من المقاولين الكبار المهيمنين على السوق، كما تعمل السياسة كذلك في توجيه الثقافة نحو الاستهلاك، وخلخلة الأبنية التقليدية، وتقديم المنتجات بجودة عالية من خلال الإشهار والدعاية، المال والسيولة. الإنتاج والبضاعة، وجودة السلع والخدمات، وبناء المؤسسات المالية، والاندماج الاقتصادي بين الشركات، ومراقبة البورصة في صعود الأسهم، وحماية الأغنياء من المنافسة الخارجية، ونهج سياسة الاقتراض من البنوك بحوافز جديدة، كلها آليات وإجراءات للحماية، والزيادة في الدخل ورأس مال الأغنياء .  


 


أصبحت السلعة تتجاوز قيمتها التبادلية والنفعية، لم يعد الإنسان كما قال كانط أسمى الموجودات، ينتمي إلى مملكة الغايات النبيلة، لا يمكن اعتباره بمثابة سعر أو بضاعة، ولا يقدر بثمن. إن الإنسان غاية في ذاته وليس وسيلة، يمتلك الكرامة والوعي السامي بتكوينه الأخلاقي ، ويبدو حسب باومان هذه الفكرة تنتمي إلى زمن الحداثة الصلبة، زمن التأسيس للمفاهيم والقيم الثابتة. نحن نعيش الآن في زمن السيولة والانتشار،فقدان المعنى، إنه عصر اللايقين، في زمن سائل تفاقمت فيه المخاوف، يصبح الإنسان عدوا لأخيه الإنسان، الشك وهواجس الخوف، وكل أشكال النفاق والتملق،عالم السلطة والثقافة يحتله السفهاء، الذين يدعمون بعضهم البعض، أفعالنا وحركاتنا كما يقول أصبحت مراقبة وخاضعة للرصد والتتبع، لست سوى رقما في المتابعة والمشاهدة، أما الإنتاج الضخم للسلع فهو مصان بكاميرات وأجهزة دقيقة، وحركة الناس عملية مستمرة في الرصد والتتبع، يعني قيم الأشياء أرقى من قيمة الإنسان، بل هناك صراع تبدو ملامحه موجودة بين عالم القيم وعالم الأشياء.


المصطنع والاصطناع نقلة في تصفية كل النظم المرجعية، من النسق المنظم والفكر الواضح، والكائن العاقل والمفكر إلى تصفية هذا النوع من الإنسان حتى نعيد بنائه على نمط ما يسعى إليه النظام الرأسمالي خدمة للبورجوازية وتكريسا للهيمنة، كل شيء في العالم تغيرت معالمه، صناعة التجميل والموضة، تسطيح الفكر، وما يتناسب وثقافة الاستهلاك، الإشهار والإعلان من خصائص الثقافة الاستهلاكية، النزعة الفردية ورغبة الفرد في إثبات ذاته وقدرته على الاستهلاك، ومسايرة إيقاع العولمة، الاستهلاك البارز اجتماعيا، أو الاستهلاك الواضح هو إستراتيجية رئيسية استخدمتها الجماعات ذات الوضع المتميز للحفاظ على مكانتهم(4)، تحولات ما بعد الحداثة التي أنتجت خطوطا غير متوازية، من جهة نقد الرأسمالية، والمركز وإعطاء أهمية للهامشي والمنسي، ومن جهة أخرى إعادة النظر في النزعة المركزية وكل ما هو ثابت، نرى تغول الدولة الحديثة، وطغيان السياسة في التنصل من حماية المستهلك من الإفراط، ووضع حد للنزعة الاستهلاكية حتى لا تصير فلسفة العصر، عملها في إلزام الأغنياء بدفع الضرائب من جراء الأرباح الخيالية، وإعادة توزيعها على الفقراء.لكن ما هو صلب يذوب في عالم يزداد توحشا، والسياسة اليوم عاجزة عن رأب الصدع لأنها أصبحت بيد طبقة اوليغارشية مهيمنة على السياسي والاقتصادي، وبالطبع لن يكون الثقافي بمأمن عن السيطرة وإعادة الإنتاج للنسق ذاته .                                                                                                                    


نحن نعيش في زمن التفاهة كما جاء في كتاب " نظام التفاهة" والتحليل الدقيق من قبل الفيلسوف الكندي ألان دونو، كل شيئا أصبح صناعة، محركها هاجس الربح والمنفعة ، ثقافة السوق هي المتحكمة، اقتران نظام التفاهة بالرأسمالية ، وليست العولمة سوى لعبة الكبار في الهيمنة بطرق ناعمة، تحجيم قدرة الدولة في التدخل، تحرير الأسعار، الحرية في التسويق، المنافسة الشرسة بين الشركات والتي غالبا ما تنتهي لاتفاقات مشتركة وتحالفات خفية ضد المستهلك، وحماية أنفسهم وأموالهم من التشتت، وضياع مصالحهم، ويأتي العاملون في الشركات والخبراء في تشخيص الأزمات لإعطاء النصائح والوصفات الممكنة لإبقاء الهيمنة والاستمرارية، كلما تراجعت الاوليغارشية إلى عاداتها السيئة ( التدليس ، الفساد، والتفاهة)، سارع "الخبراء" الذين يتقاضون رواتبهم منها إلى إنقاذها(5)، التناقض الصارخ بين دول العالم، من يعيش التخمة والإفراط في الاستهلاك، ودول تعاني الفقر والنقص في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لو كانت العولمة صريحة في مراميها وأهدافها التي تتجلى في تقليص الصراعات والحروب والفوارق الطبقية عبر انتشار الفلسفة الليبرالية من خلال السعي نحو الديمقراطية والحرية، وفتح الحدود بدون عوائق جمركية لأمكن للعالم العيش بدون نقص في المواد الاستهلاكية، لكن لعبة السياسة وثقافة السوق تحركان طبيعة العلاقة بين الرأسمالية والعمال المستهلكين ، ثقافة قائمة على استخلاص الأرباح من المبيعات، وتراكم الرأسمال وسيولة المال، وانتقاله بين الأمكنة والاستفادة من خبرة اليد العاملة ومهارة الخبراء، وما يقدمونه من نصائح تقنية في الهيمنة على السوق، والسيطرة على العقول، الثقافة الآن لا تصنع مثقفين وفلاسفة وعلماء إلا للحاجة، وما تتطلبه المصانع ومراكز البحث، ومعامل الصناعات المختلفة في مجال الطب والأدوية والصناعات الثقيلة، الثقافة الآنية صنعت إنسان بلا بوصلة، تائه في أحضان اليومي، وما يرمي إليه الإعلام من مواقف وأفكار ترمي بالأساس إلى تنميط الإنسان وفق نزعة استهلاكية معينة، ترغمك الثقافة الاستهلاكية على تقبل النماذج الممكنة في الحياة، والصورة أصبحت خير معبر عن عالمنا، وسيط بين دواتنا والواقع، علاقات المنفعة ومشكلة الرأسمالية ليست في الإنتاج والوفرة، بل في الاستهلاك عندما يتحول إلى غاية للوجود الإنساني، وما ندرك من هذا الوجود مبادئ أخرى يتأسس عليه الفكر الإنساني، وتتشكل منها الحياة الصلبة، فكانت من علامات وأسس الأزمنة الحديثة، إننا بالفعل في زمن فقدان المعنى، زمن الهيمنة والسيطرة على الإنسان بالآلة والصورة، انقلاب في الحقيقة، حتى أصبحنا نعيش بين الأحلام والأوهام  .                                                                                        


صناعة الثقافة واقع جديد، تعميمها ونشرها على نطاق واسع أشبه بصناعة السيارات والماركات التي تغزو الأسواق العالمية، هناك إنتاج وفير وتسابق نحو السبق، وعقد الصفقات التجارية، وإقامة علاقات إنسانية بطابع مادي مغلف بالمنفعة للجميع، في ظل رأس المال، أصبح الدولار سفير كوني للولايات المتحدة الأمريكية، والصناعة الصينية اكتسحت البيوت، والعولمة تفهم من خلال التدفق في السلع والاتصالات، الرخاء المزعوم سرعان ما يتحول لاستنزاف طاقات الدول الفقيرة، وينهك الاقتصاديات المحلية لما تحمله السلع من جودة وأثمان مناسبة، ليست الدول الفقيرة قادرة على مصادرة السلع لأنها بصدد نسف الاتفاقيات التجارية المبرمة، ولو كانت على حساب صناعتها المحلية، صناعة الثقافة شملت ميادين مختلفة، من الرواية والأدب والسينما والأعمال الفنية والميديا، إعادة إنتاج الأشكال الثقافية، وتسويقها من جديد كمنتجات وسلع للاستهلاك، وتصوير هذه الأشكال باعتبارها نماذج جديدة في عالم اليوم، تنفصل عن الأشكال الكلاسيكية في الإبداع، والإخراج، وتقدم لوحات فنية جمالية للمستهلك، ممزوجة بين الجانب الجمالي والمعرفي، هكذا تحولت الثقافة والفكر إجمالا من عصر الحداثة الصلبة إلى عصر الحياة السائلة، تشكلت طرائق جديدة في التسويق، وبناء المؤسسات الضخمة للتجارة والمال، نحن في زمن السيولة، العولمة وإلغاء الحدود الجغرافية، وصياغة العالم بمنطق الأقوياء المسيطرين على السوق، نصيبهم من التجارة العالمية اكبر، سيولة القيم بناء على نزعة أخلاقية من خلال نزعة استهلاكية دون كوابح وعوائق سوى ما يزيد من الإنتاج والاستهلاك، سيولة الرساميل، وتدفق رأس المال العابر للحدود، المستفيد الأكبر من السياسة التي رسمت ملامح العالم خصوصا عندما أعلن خبراء الليبرالية عن نهاية التاريخ وموت الايديولوجيا المضادة، وانتهاء عصر القوميات والدول الفاشية، هذا عصر الليبرالية والتأقلم مع فلسفتها الرامية للرخاء والقضاء على الخصوصية باسم الكونية والقرية الصغيرة، لا يدري البشر في لحظة ما أن يتحول العالم إلى رماد وتختفي التقنية وتتبدد أحلام الأغنياء، وتتلاشى أوهام الفقراء في عالم خال من الطبقية، ونعود للوراء نحو الانكماش على الذات، العودة للبدائية، كل الأشياء واردة في عالم يزداد تقدما وبشاعة .                                               


 


هوامش:


 (1) ريتشارد اتش.روبنز "المشاكل العالمية وثقافة الرأسمالية " ترجمة فؤاد سروجي،الأهلية للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 2008 ص122


(2) زيجمونت باومان"الحب السائل " ترجمة حجاج أبو جبر ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى بيروت 2016 ص 41


(3) أريك هوبزباوم "أزمة متصدعة " ترجمة سهام عبد السلام ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى 2015 ص114


(4)جيرار لكليرك " العولمة الثقافية الحضارات على المحك " ترجمة جورج كتورة ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، الطبعة الأولى 2004 ص51


(5) ألان دونو " نظام التفاهة " ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، الطبعة الأولى 2020 ص197

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!