الوضع المظلم
الأحد ٢٨ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
التطرف داء..والمعرفة دواء
عبد الناصر الحسين

عبد الناصر حسين - كاتب سوري


ظللنا نسمع عن التطرف من بعيد وندرسه من خلال مقالات الكتّاب، ودراسات الباحثين، دون أن نتصور يوماً أن نراه في بلدنا «سوريا»، حيث الشعب الطيب الوديع، إلى أن جاء اليوم الذي رأينا فيه سوريا تغرق بالتطرف وتختنق بالتزمت وتتلطخ بالسواد وتصطبغ بالحناء.



لم أكن أتوقع أن ينخر التطرف كيانك يا وطني الحبيب!. لكنهم خدعوك حين أوهموك أن «الجنة تحت أقدام المتطرفين», وأن النصر تحت عباءة المتزمّتين, فصدّقتهم يا وطني لأنك طيب القلب سليم النوايا, ولأنك تريد الخلاص من المذبحة النكراء والملحمة الحمراء، فظننت أن مفتاح الخلاص ربما يكون بيد المتطرفين، وما كنت تدري أنهم يخبئون لك السم الزعاف ويتوعدونك بالسبع العجاف.



والحقيقة التي لا مفر منها هي أن تطرف الخطاب السياسي للثورة السورية أساء إليها إساءة بالغة, حيث ظهر التطرف في المشهد السوري من خلال دعوات محمومة لإقامة «الخلافة الإسلامية» ومحاربة «الغرب الصليبي», والمطالبة بتحرير القدس والجولان وربما دعم «حركات التحرر العالمية». وكل ذلك بحماس غير مبرر، واندفاع لا يفسر، وربما كان متصنعا ومرائياً, وانتشرت دعوات لقتل المخالفين في الرأي والموقف, وفي دعوات للقتل لمجرد الانتماء لطائفة أو حزب, أو قتل الأطفال الأبرياء من أبناء طائفة معينة.



التطرف يعني الأخذ بالشذوذ في كل شيء والتموقع في الحواف البعيدة في كل قضية والابتعاد عن منطقة الوسط في الآراء والمواقف والاعتقاد، والتواجد في الأطراف لا يضمن لصحابه السلامة والأمان لأنه معرض للسقوط دوماً. وبناء عليه فإن التطرف جملة من التصورات والسلوكيات والآراء والمواقف والتصريحات العدائية الشاذة والمتشددة والتي تسقط صاحبها في الخسران المؤكد وتضر بالمحيط من حوله.



التطرف حالة من سوء الأخلاق ونقص في اللياقة واللباقة, ويبدو واضحاً في أي مواجهة مع الآخرين حيث تظهر أعراضه في رفع الصوت, وخشونة التعبير, والشد العصبي والانغلاق الفكري. وينمو في المناخات الملوثة والفضاءات المكدرة, ويقتات على النزاعات والصراعات والفتن, وهو يدفع لمزيد من التصعيد والاحتقان المنحرف لدرجة أن التصعيد يصبح غاية بحد ذاته, وهو خطاب يمتاز بالعدوانية ولا يتسع حتى لأصحابه, ويتجه إلى فقدان الأصدقاء.



إن التطرف حالة نفسية واجتماعية غير صحية لأنه اعتكاف على الذات واعتزال للآخرين, ولذلك ندرك أنه يؤذي أكثر ما يؤذي ذاته ثم محيطه القريب. وهو يتنافى مع العلم ويخشى الحوار والانفتاح والمواجهة والتقدم والتطور, كما إنه عموما منهج قائم على المزايدة والمبالغة والتهويل، وبهذا النهج هو يكسب التأييد والمناصرة ويلتقط المغفلين. ولا يفرّق المتطرف بين عدو وآخر, بل إنه أحيانا يعادي القريب أكثر من البعيد, مبرراً ذلك بدواعي الأولويات, فتطهير البيت الداخلي أولى من المحيط الخارجي, ولذلك تنشأ لديهم ظاهرة التكفير والتخوين, حيث يبدو العالم كله بعد ذلك بلون واحد, فتسود لديهم ثقافة «ملة الكفر واحدة» أو «وجهان لعملة واحدة».



إن التطرف يتجافى مع الوعي بسبب محدودية الخيارات وأحادية النظرة وضيق الأفق وقصر النظر وسطحية الفكر وجمود الخطاب وحدّية المعايير وسوء التقدير والافتقار للتخطيط والمرونة والانفتاح.



إن التطرف ظاهرة مبنية على ردود الأفعال الحادة مما يسبب سهولة الاستدراج والاختراق والوقوع في الأفخاخ, وعليه فإن التطرف ثقافة قائمة على الانغلاق والانكماش على مفاهيم وتصورات تكلست في زوايا التفكير يصعب خلعها إلا بانخلاع جدار الذهن معها, فالمتطرفون لا يسمعون ولا يتلقون وافدا فكريا جديدا لأنهم يخافون من التغيير حين تحضر دواعيه.



التطرف فكر عدواني يلجأ دائما إلى خيارات التصادم والمواجهة، والحلول السلمية ليست مطروحة لدى المتطرفين, وبقدر ما يتشدد المتطرفون على أنفسهم من حولهم بقدر ما ترتخي عزيمتهم لينقلبوا إلى الاتجاه المقابل.



إن زيادة التشدد على المقربين تجعل المتطرف ليّنا مع الأعداء مهادنا لهم, بحيث يستهدف المقربين بالعقوبة ويستهدف الأعداء بالنصيحة والدعوة, يدققون على الناس بصغائر الأمور لكنهم يقعون بالكبائر.



التطرف نزعة فردية لا تهتم بالمصلحة العامة بل إنها استهداف مباشر للصالح العام، ولا تكترث بكثرة المفاسد على حساب المصالح, وهو نزوع نحو الانشقاق والخروج على الشرعية وعدم الاكتراث بتماسك الصفوف, كما أن التطرف شكل من أشكال الهوس القيادي والهوى السلطوي, وحين لا يجد المتطرف في نفسه مؤهلات القيادة يحاول التماسها بالتشد والتشنج.



وهو شكل من أشكال الجهل لأن فقه المتطرفين لا يحتوي على تفاصيل كافية، إنما هي أحكام بالجملة لا تفرق بين حالة وأخرى, والمتطرفون لا يلتزمون بالعهود والمواثيق لأنهم معتادون على إلزام الآخرين, ومن تعود على الإلزام صعب عليه الالتزام.



إن التطرف حمل ثقيل يتعب صاحبه مما يجعله يضمر نوايا معاكسة لما هو عليه، ويتوجه إلى الخلاص من حمله بأي طريقة ويجمع ما بين الخيارين المتناقضين: الشهادة أو المهادنة وذلك تبعا لكمية الطاقة المتبقية لديه.



عادة ما يتعايش التطرف مع ظروف الفتن والنزاعات, وينمو تحت الضغوط والقهر والاحتجاز الذي يولد ردود فعل ساخطة, بحيث يسخط المتطرف على من غابت فزعته وربما يصبح عدوا لدوداً, أكثر بكثير على من حضرت أذيته وقد يصبح حميماً ودوداً.



يترافق التطرف عادة مع سوء الأخلاق والغضب لأنه يرى الأشياء دوما على غير مقاسه الفكري, ويرى الأمور معوجة ومشوهة من حيث لا يعلم أن الخلل يكمن فيه هو لا في الآخرين، فتلازمه حالة من الثوران والهيجان ما دامت الأشياء مخالفة لمقاييسه.



في ثورتنا السورية كثر التطرف إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار, ولا حل يرتجى سوى بالتجمع في منطقة الوسط, حيث لا تطرف ولا إقصاء ولا تهميش ولا إلغاء ولا تكفير ولا تفسيق ولا تخوين...فعلى الأطراف يجتمع المتطرفون الأشرار.. وفي الوسط توجد الثورة والثوار في الوسط توجد الحرية والأحرار.



العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!