الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
البعد الأوروبي للمجال الحيوي الروسي المزعوم 
قهرمان مرعان آغا

مهد (هتلر -Hitler) الزعيم النازي الألماني لصعود حزبه (Nationalsozialismus - 1933)، جملة من المقومات منها استعراض القوة والتحشيد والعمل على طغيان العسكرتاريا العمياء في المجتمع من حيث الاستعدادات النفسية التعبوية، لاستنهاض الهمم القومية الثأرية من خلال استحضار مرحلة هيمنة الإمبراطورية الألمانية والاغتراف من عزيمة القائد البروسي (بسمارك - Bismarck) في توحيد إرث الأمة.

إضافة إلى ما خلفته حروب (نابليون - Napoléon) من أثر في الواقع الجغرافي وفي البنية النفسية للفرد الألماني من هزائم، لهذا أصبحت الجغرافيا الألمانية آنذاك في حدودها بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ضيقة على (الزعيم - Fuhrer)، فأصبح يبحث عن مجال حيوي أوسع على مقاس طموحاته يبني عليها أمجاد أمة لا تقبل الهزيمة، دون أي اعتبار لما يلحق من أذى بالآخرين.

بدأت الحرب في (عام 1939) باجتياح الحدود الشرقية وضم بولندا (بولونيا) وتمكن في (1940) من اجتياز الحدود الجنوبية الغربية حيث يقع إقليمي (الإلزاس واللورين Elsass-Lothringen) اللذين يعتبرهما الألمان جزءاً من الأراضي الألمانية، إلا أنّ جحافل قواته استمرت في التقدم باتجاه باريس واحتلال أجزاء واسعة من فرنسا ووصولاً إلى الحدود الإيطالية، حيث أصبح الطريق البري مع حليفه الفاشي (موسوليني - Mussolini) موصولاً دون عوائق. 

أصبحت دول العالم مهدّدة ومتوجِّسة، حيث بقي الكثيرمنها على الحياد ونأت بالنفس من شرور العدوان النازي، منها الاتحاد السوفييتي، وما جاء على إثر ذلك من اتفاقيات مع (ستالين) كانت في هذا المنحى، إلا أن حميَّة الانتصارات وسكوت العالم دفعته للتمادي والتوجه لغزو الاتحاد السوفيتي وحصار (بطرس بورغ - لينين غراد)، حيث جاءت سلسلة هزائم جيشه على أسوارها، بعدما توحَّدت دول العالم في مواجهة غطرسته وشكَّلت تحالفاً قوياً يصعب مقاومته، فسقطت النازية بعد حرب عالمية ثانية، امتدت إلى (ربيع 1945)، حيث تمكن (الدكتاتور ستالين) من الاحتفاظ بجزء من شرق ألمانيا، ومن ضمنها برلين (جمهورية ألمانيا الديمقراطية D.D.R)، إضافة إلى شرق أوروبا بالكامل، فأصبح المجال الحيوي للاتحاد السوفيتي أكبر من طاقاته الحقيقية، وبناءً عليه، تم تشكيل أنظمة سياسية استبدادية بنسخ اشتراكية موحّدة، إلا أن الأيديولوجيا تلك، والتي كانت تسمى بالشيوعية العالمية (الأممية)، أصبحت تتغذّى على نفسها حتى انهارت، بسبب الاستبداد وانعدام الحريات وتدهور حالة الاقتصاد والفساد.

فصورة (روسيا البوتينية) اليوم مشابهة تماماً لما قامت به (ألمانيا الهتلرية) قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً، حيث تسببت في فقدان أكثر من 65 مليوناً من البشر لحياتهم. لذا فإنَّ استعراض القوة وفرض شروط مستوحاة من إرث السوفيات الذي أقامه الروس محمولاً تحت عنوان رابطة الدول المستقلة وتشمل (منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي والاتحاد الجمركي) لاستمرار تغطية السيادة الروسية وهيمنة ثقافتها على الشعور القومي لبقية الشعوب، إلا أنّ الخصوصية الثقافية لتلك القوميات ما لبِثت أنْ استقلت دولها حال سقوط الاتحاد السوفييتي، فمنها من ظلت أسيرة التخلف والاستبداد والتبعية الروسية (دول القوقاز وبيلاروسيا)، ومنها دفعت ضريبة الحروب البينية (أرمينيا وأذربيجان)، ومنها من خسرت استقلالها بالحرب (الشيشان) أو فقدت أجزاء من أراضيها (جورجيا - أوكرانيا).

على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ سنتين بسبب وباء (Corona)، وبالأخصّ روسيا، حيث ينتشر الفساد والمافيات ويقلّ دخل الفرد وتنخفض مستويات المعيشة ويزداد الفقر والبطالة، رغم صادرات الطاقة (النفط والغاز) والمواد الزراعية (القمح). لهذا فإنّ مغامرات بوتين تأتي على حساب معيشة الشعب الروسي ورفاهيته.

فالضائقة المالية وانتكاسة التعافي الاقتصادي الروسي على مر العقود الماضية، باستثناء الصناعات العسكرية التي تعتبر متخلفة نوعاً ما تقنياً عن مثيلاتها في الدول الغربية وأمريكا، لها انعكاسات سلبية على المستوى الشعبي العام، سواء فيما يتعلق بدخل الفرد أو بالحقوق الأساسية، حيث تنعدم الحريات، بما يشمل منع التداول السلمي للسلطة وتكريس روح سلطة الفرد والدكتاتورية. فالهروب من الاستحقاقات الداخلية  نحو خارج الحدود، يشكل على الدوام خللاً ونوعاً من عدم التناسب في ميزان الأمن العالمي، فلم يعد احتمال تعادل كفتي الميزان ممكناً، لصالح مشروع بوتين في حال نجاح أو فشل سياساته في مواجهة الحلف الأطلسي، لأن المعادلة أصبحت مستحيلة الحل ولا يمكن المهادنة من قبل العالم الحر مع تلك السياسات كما السابق، وفي المقابل ستنعكس حتماً أشد قسوة على المواطن الروسي بما يطال الطبقات التي تناصر بوتين في سياساته العدوانية، حيث تأتي العقوبات الأمريكية والغربية  في هذه المرة قاصمة لهيكلية الاقتصاد الروسي وحجم الكُلفة سيكون باهظاً.

مقاربات: 

احتلال (كييف) يماثل احتلال (باريس) ومحاولة تشكيل حكومة موالية للروس يأتي في ذات المغذى المعادل لحكومة (فيشي -Vichy)، وتحالف (بيلاروسيا لوكاشينكو) يتطابق من حيث المبدأ مع دول المحور (إيطاليا موسوليني). نحن أمام ظواهر تتكرر تاريخياً مع مثيلاتها إلى حد التطابق المطلق.

تحالف روسيا مع الصين في مواجهة العالم: 

كما أنّ تحالف روسيا مع الصين ورفع مستويات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري سيأتي حكماً لصالح طغيان المنتج الصيني، ناهيك عن اختلاف معدلات النمو الاقتصادي وشكل الاقتصاد في البلدين. حيث تمكّنت الصين من تطوير اقتصاد السوق الاجتماعي مقابل بقاء الاقتصاد الروسي ضمن ملكية الدولة وعلى حساب موازنة البنود الأخرى الخاصة بدعم النفقات الاجتماعية، بما فيها انعدام التأمين الصحي والضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة في مجتمع يزداد فيه مساحة الطبقة الفقيرة بسبب اختلاف نوعية السلع والمنتجات بين البلدين. ولا يرى في الأفق سوى التعاون العسكري بين البلدين، حيث يشكل موقفهما المشترك باستخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي مزيداً من التعسف في استعمال الحق بمواجهة حرية الشعوب وصيانة استقلال الدول ودعم الدكتاتوريات في هذا العالم.

وحدة الموقف الأوروبي:

ساهم الغزو الروسي لأوكرانيا، وبشكل لافت، على وحدة الموقف الأوروبي، بما فيه تلك التي خارج الاتحاد، مثل بريطانيا والنرويج، إضافة إلى التسابق في اتخاذ الإجراءات والإدانات من معظم الدول والهيئات والمنظمات الأممية بالاجتياح الروسي لأوكرانيا، ليس هذا فحسب، بل دفع هذا الحدث أغلبية الدول لمراجعة ميزانيتها المخصصة للدفاع والعمل على تحديث منظومات دفاعاتها الجوية، مثل ألمانيا (100 مليار يورو)، إضافة إلى وحدة الموقف بشأن تسليح أوكرانيا وإمدادها بالمستلزمات اللوجستية الدفاعية لطرد الروس من أراضيها. 

حصار وعزل روسيا: 

العقوبات الأمريكية والغربية التي فرضها اجتياح أوكرانيا على قيصر (فاغنر)، الرفيق بوتين الرهيب، تخطت الأشخاص من رجال أعمال وشركات مقربة له إلى البنك المركزي الروسي وإلى معظم بنوك الائتمان العالمية والتعاملات التجارية الدولية، بحيث أصبح معزولاً مالياً، إضافة إلى غلق المجال الجوي والبحري، لهذا فإن الآفاق أمام موسكو أصبحت محجوبة بجملة من التدابير الصارمة لإضعافها ومنع استمرارها من تدمير أوكرانيا وإجبارها في النهاية على الانسحاب.

أوكرانيا والحالة الجديدة: 

في ظلّ انعدام موازين القوة العسكرية وحجم الفعل التدميري الهائل للأسلحة الروسية الفتاكة، فإن احتمال سقوط (كييف) وارد بالرغم من الروح المعنوية، القتالية، التي يبديها الجيش والشعب الأوكراني في الدفاع عن وطنهم. 

في كل الأحوال لا يبدو هناك مؤشرات على تراجع أوكرانيا في البحث عن بيئة دولية حاضنة لها لضمان استقلالها السياسي سوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم إلى الحلف الأطلسي، ولن تقبل بوضعها تحت مظلة موسكو أو في صفوف الدول المحايدة منزوعة السلاح. والدعم الذي نالته أوكرانيا من العالم الحر ومن مختلف مناصري الحرية في العالم لم تنله دولة أخرى، إضافة إلى مواقف معظم الدول بضرورة احترام سيادة ووحدة أراضيها وفق عضوية الأمم المتحدة والمواثيق الدولية ومنع الاعتداء عليها وفق مبادئ حقوق الإنسان والتشريعات الناظمة لها، والتعهد بدعم المقاومة الوطنية الأوكرانية في حال سقوطها تحت الاحتلال العسكري الروسي، ولا يستبعد اتخاذ إجراءات لخيارات أخرى، مثل الحظر الجوي، لضمان عدم سقوط جغرافيتها بالكامل بيد الروس. 

انعكاس غزو أوكرانيا على الحالة السورية: 

أدركت أوروبا بشكل لا يقبل الشك مخاطر تنامي غطرسة (روسيا بوتين) التي تمادت لأسباب مختلفة، من جملتها المهادنة الغربية مع السلوك العصاباتي لها في معظم تدخلاتها العسكرية، سواء في سوريا أو شمال أفريقيا، فمنذ عام 2015 تمارس القتل والتدمير والعنف العاري بحق الشعب السوري، فيما لا يخلو عنصرا التشبيح الدولي واستعراض القوة من مناوراتها التي تجريها في عرض البحر الأبيض المتوسط وطوله، بمواجهة أوروبا، انطلاقاً من قاعدتها البحرية في (طرطوس) على الساحل السوري وفي قاعدتها الجوية في مطار(حميم)، فلا يفصلها عن البر الأوروبي سوى مياه البحر، لهذا قد تراجعت هذه الدول، وأمريكا وخطوطها الحمر التي رسمتها أمام إجرام نظام الأسد وداعميه الروس في بداية الثورة، مع قطع دابر تآمر إيران وتركيا في سوريا.

لذا فإن تقليص النفوذ الروسي في البحر المتوسط يبدأ برفع وصايته عن سوريا، وعلى الغرب التيقّن جيداً أنّ مبررات أمن إسرائيل التاريخية لم تعد ذات أهمية مقارنة بأمن أوروبا المستجد، لهذا فإن تطورات القضية السورية، رهن بإحداث تغيير منهجي من حيث ضرورة تغيير النظام من خلال الضغط، والعمل بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن، وخاصة القرارين (2118 لعام 2013) الخاص باستخدام الأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً، و( 2254 لعام 2015 ) الخاص بتشكيل هيئة حكم انتقالية وإجراء انتخابات ووضع دستور جديد، في ظل دولة اتحادية، لا مركزية سياسياً، وبذلك ستكتمل حلقة دعم ومساندة قضية الحرية في مواجهة البربرية.

 

ليفانت - قهرمان مرعان آغا 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!