الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الاعتراف برواسب طبقية سورية كبداية حل
الاعتراف برواسب طبقية سورية كبداية حل

السوريون لا يحبّون بعضهم، قلّما يساعدون بعضهم بعضاً، يغارون من الآخر، ويمقتون النجاح، هكذا هو حال السوريين في كل مكان، يتنازعون على أبسط الفرص، ويخلقون عدوات فيما بينهم من أتفه المواقف وأصغرها، ناهيكَ عن تفرقهم وتشرذمهم وازدواجيتهم، يدّعون أنهم ضد الظلم لكنهم في الوقت عينه غير مستعدين للتنازل عن أيّ صغير في سبيل القضاء عليه، أو بالأحرى غير مستعدين للتضحية بأيّ امتيازات محقّقة لمساعدة غيرهم، حالهم يحاكي حال العديد من المنظمات الدولية والإنسانية، وبعض الدول المتقدمة، التي تستنكر المظالم والانتهاكات، لكنها على أرض الواقع لا تتّخذ أيّ خطوات فعلية لإنقاذ العالم من المآسي، هي فقط تشجب وتندّد لأنها تعلم أن زوال المصائب عن الغير يعني تقليص الرفاهية عنها.


لِمَ ينبغي على السوريين أن يحبوا بعضهم، وكيف يمكن لهم الفلاح في تحقيق هذا السموِّ الاجتماعي والأخلاقي وهم ضحايا نظام عمل ما بوسعه لترسيخ الطبقية والتفرقة في نفوسهم. الموضوع معقد وليس كما يزعم بعض المتفائلون بأن الثورة جمعت السوريين ووحدت خطاهم ومواقفهم، والأفضل الاعتراف بأن السوريين ما يزالون في بداية الطريق ويحتاجون للخلاص من رواسب النظام ولوثاته وقتاً وجهداً، لكن يمكن لهذا الوقت أن يُختزل فيما لو كان الجهد مركزاً وموجهاً في طريقه القويم بعيداً عن المثالية المُتخيّلة التي لم تجرّنا إلا نحو المزيد من الخيبات.


الطبقية موجودة منذ الأزل وحفرت لها مكاناً وركناً في التاريخ، وهي نتاج الصراع على السلطة، فالعالم مقسم على أساس القوة والهيمنة الاقتصادية والاجتماعية، غير أن هذه القوة/ الاعتقاد بالقوة تخلق في البيئات الهشة أزمات طبقية حادة تتجذّر في فكر المجتمع ويغدو من الصعب التخلّص منها بعد اندلاع الثورات. السنوات التي سبقت الثورة في سوريا كان هناك اضمحلال واضح لكل الطبقات باستثناء طبقتين هما الطبقة الحاكمة وحليفتها الأقرب إلى المقتدرة، والطبقة الفقيرة المعدمة وتُشكّل أغلبية ساحقة، إلا أن بعضها ما زال متمسكاً بإرث التوسطية، في حين انحلّت باقي الطبقات، ولم يبقَ لها أثر، وفي العموم لم تشهد سوريا صراعاً طبقياً قيادياً وإنما كان نوع من الطبقية الفوضوية استثمرها النظام وأضاف لها صبغة طائفية. ذكر الكاتب المصري أحمد موسى بدوي، في كتابه (تحولات الطبقة الوسطى في الوطن العربي) 2013: "البلدان العربية لم تشهد صراعاً طبقياً بالمعنى الدقيق حيث عجزت الطبقات كافة عن مواجهة الطبقة المركزية المتحكمة المتحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة".


بعد اندلاع الثورة السورية في آذار2011، انقسم السوريون استناداً إلى عوامل متعددة، لكن واحداً من أبرز انقساماتهم هو انقسامهم الطبقي الذي جعل أيضاً مواقفهم من الثورة متباينة، على الرغم من أن معظمهم ينتمون لنفس الطبقة، طبقة المستَغَلّين والمفقرين، غير أن بقايا الثقافة والتنشئة، وصعود نزعات وولاءات طبقية مزيفة غذّاها النظام في السابق وأثارها عند اندلاع الثورة، لعبتْ أدواراً مركزية في حراك بعض المجتمعات السورية، فظلّ أهالي دمشق على سبيل المثال، مؤيدين للنظام إلى آخر رمق، أو بعبارة أدق غير معارضين له ظاهرياً لكنهم في باطنهم يضمرون له الكره والعداء، هم في الحقيقة كانوا يحاولون التعلّق بقشة التفرّد عن الآخرين، علّها تكون المخلّص والمنقذ من بطش النظام، إلا أنهم في الحقيقة يدركون أنهم في نفس الخانة/ الطبقة مع الريف الدمشقي الثائر والمنتفض ضد النظام سيما على مستوى حرمانهم من الحقوق الاقتصادية، الاجتماعية والمدنية. اندثار الطبقة المتوسطة الأصيلة، وما يرافقه من عوز وبطالة واسعة واضطهاد اقتصادي وسياسي لا يحتاج كثيراً لتفصيل وتفنيد. "الفقر" واحد والجميع أمامه عراة دون أدنى فوراق.

في بلاد اللجوء استطاع السوريون أيضاً الانقسام والتحزّب وتشكيل عدة فئات وطبقات لكن أبرزها كانت طبقتان، طبقة الفقراء والمتسولين، المتشردين والجائعين، وطبقة ميسوري الحال الذين استطاعوا الوقوف من جديد وافتتحوا مشاريع أخرى في البلدان التي لجأوا إليها، وتمكّنوا من لفت أنظار المجتمعات المضيفة للاختلاف والتمايز بينهم وبين الآخرين وهو أمر طبيعي ومفهوم.


لكن غير الطبيعي وغير المبرّر هو اصطناع المحبة والألفة الزائفة بين الطرفين، بحجة أنهما باتا في نفس المركب، مركب النزوح أو اللجوء الذي تسقط أمامه كلّ الأقنعة. الأغنياء لا يحبون الفقراء والفقراء لا يفخرون بالأغنياء هذه هي الحقيقة الوحيدة الراسخة، وأيّ محاولات أخرى لإظهار ودّ مصطنع لعلة القضية المشتركة ستبوء وباءت بالفشل لأنها قادت إلى توسيع الهوّة ومشاعر الطبقية البائسة بين الطرفين.


الأفضل في المرحلة الراهنة الاعتراف بوجود ميل طبقي لدى شرائح لا يُستهان بها من السوريين وعدم افتراض تجاوزه، من ثمّ توجيه الجهد نحو توعية كل الأطراف بأن مصالحهم واحدة، وأنهم بحاجة بعضهم بعضاً، وليس من الضروري لهذه الحاجة أن تسلخهم عن طبقاتهم، أو تزعزع إحساسهم بالتفاوت سواء أكان اجتماعياً أو اقتصادياً أو كلاهما، على اعتبار أنهم غير مهيأين لهذه المواجهة بعد. من الممكن لكل فئة أن تلزم مكانها مؤقتاً، وتحاول فهم الأخرى لتشكيل قوة في وجه المُستَغِلّ أيّاً كان. المطلوب هو بثّ وعي أصيل في نفوس السوريين يساعدهم على تفهّم بعضهم بعضاً ومخاوفهم ليس القفز عن المشكلة واعتبارها محلولة.


ذكر الكاتب البريطاني، جورج أورويل، في روايته (الطريق إلى رصيف ويغان) 1937، المشكلات الاجتماعية التي أصابت المجتمع البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، مؤكداً على وجوب اتحاد جميع الطبقات وخاصة الطبقات الوسطى مع طبقة العمال المضطهدين في طريق القضاء على النظام الاستبدادي الرأسمالي وما خلّفه من بطالة وفقر في بريطانيا في تلك الآونة. وردَ في الرواية: "إن كنت تنتمي إلى البرجوازيين لا تتحمس كثيراً للانحناء احتراماً وعناق أخوتك البروليتاريين، فقد لا يحبون ذلك، وإن أظهروا بأنهم لا يحبون ذلك يمكن أن تجد بأن ميولك الطبقية ليست ميتة كما تخيلت. وإن كنت تنتمي إلى البروليتاريين بالمولد أو ببصيرة الرب لا تسخر آلياً من رابطة المدرسة القديمة (المقصود بهم البرجوازيين)، فهي تحمي ولاءات ممكن أن تفيدك إن عرفت كيفية التعامل معها".


كاتبة وصحفية سورية

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!