الوضع المظلم
الأحد ٠٥ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
استقراء الشخصية البعثية
المبادرات وخطر التسلّق

فرحان مطر




لست بصدد مناقشة التراث الفكري لحزب البعث في هذه الأسطر، ولا حتى مراحل تطوره التاريخية، أو التقلبات والانقسامات التي شهدتها صفوفه، قبل وبعد أن أصبح هناك بعث سوري، وبعث عراقي، فهذه المهمة أجدر أن يتناولها بالبحث المستفيض الباحث المتخصص، المعني بقراءة تاريخ هذا الحزب وأثره على الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا (أسوة بباقي التيارات والأحزاب السياسية الأخرى).




غير أنني أحاول تلمّس ملامح تأثير (هذا البعث) في شخصية السوري الذي عاش عقوداً من الزمن في ظل حكم هذا الحزب، وكيف انعكس كل ذلك على شخصيته، إن كان ثمة تأثير يستحق الذكر، سلباً كان أم إيجاباً، وهل يمكن بالتالي الحديث عن شخصية بعثية؟!.




البعث الذي جاء بانقلاب عسكري، وأطلق عليه وصف: ثورة، منذ آذار 1963، ألغى الحياة السياسية في سوريا، من خلال فرضه قانون الطوارئ، وصار الحزب الحاكم الأوحد، إلى أن جاء انقلاب آخر من صفوف البعث والعسكر مرة أخرى بقيادة حافظ الأسد الوزير المعزول آنذاك، (والذي سبق أن كان وزيراً للدفاع وأعلن عن سقوط القنيطرة قبل ساعات من سقوطها الفعلي في حرب خمسة حزيران)، وأطلق على انقلابه ذاك وصف: الحركة التصحيحية.




ظل حافظ الأسد إلى اللحظة الأخيرة يحكم باسم حزب البعث، مع أنه قد ألغى الحزب من أي وجود أو دور حقيقي له، ولم يعد سوى مؤسسات شكلية، ومناصب، ومؤتمرات، ومهرجانات، واحتفالات، ومناسبات (جماهيرية) كما يحلو لهم التسمية.




مع تفريغ الحزب على يد حافظ الأسد من أي معنى له، تفرغت الكوادر الحزبية لتكون العصا الغليظة بيد النظام القمعي الذي أسس له قائد الانقلاب (حافظ)، جنباً إلى جنب مع الأجهزة الأمنية التي لم يعرف بلد في العالم مثيلاً لها في التعدد، والتسميات، والاختصاصات، والقمع بطبيعة الحال.




هنا أصبح الدور الوحيد المسموح للبعثي رسمياً أن يمارسه هو دور المخبر لتلك الأجهزة الأمنية، صار البعثي مع مرور الزمن مخبراً بالضرورة، وراح يعزز وجوده ومكاسبه من خلال هذه المهمة الوحيدة المتاحة.




انتشر الفساد وساد كل مظاهر الحياة العامة في سوريا، ولم يكن هذا الفساد عشوائياً، عفوياً ناجماً عن تقصير في القوانين، أو سوء في الإدارة، أو ضعف في كوادر المحاسبة فيما لو وجدت، وكان لديها الرغبة بلعب دورها الرقابي هذا، بل كان الفساد في ظل البعث والأسد مرسوماً، ومخططاً له بمنتهى الدراية والحبكة.




في دولة البعث صار المطلوب أن يكون المواطن فاسداً، وإلا فإنه موضع الشبهات، ويقف عائقاً أمام مسيرة التطوير والتحديث (شعار مرحلة الأسد الابن بشار ابن أبيه).




تراجع التعليم بكافة مراحله على الرغم من كونه إلزامياً في المرحلة الابتدائية ومجانياً في باقي المراحل، وكذلك تراجع الواقع الصحي على الرغم من مجانية المشافي الحكومية للمواطنين، وتقلص عدد المصانع والجامعات وكل ما يؤدي إلى رفع مستوى حياة المواطن المعاشية والاجتماعية، وانتشرت كالفطر الجوامع ومعاهد تحفيظ القرآن، في الوقت الذي يقول فيه النظام بعلمانيته، وانتشرت طبقة من المشايخ الذين يسبّحون بحمد البعث، وظهرت القبيسيات في هذا المناخ، وامتلأت السجون والمعتقلات بكل من تجرأ ورفع الصوت، وطالب بأي شكل من أشكال التغيير.




ساد الخوف في نفوس السوريين بعد سلسلة المجازر التي ارتكبها النظام في عدد من المدن والبلدات السورية، وما فعلته قوات سرايا الدفاع، والوحدات الخاصة في السجون السورية من اقتحامات.

تراجعت الثقافة والفنون بشكل لافت للأنظار، وازداد عدد طلاب كليات الطب والهندسة والصيدلة من الطلاب البعثيين الذين اتبعوا دورات القفز المظلي والصاعقة، وحصلوا على علامات إضافية تخولهم حق الدخول في تلك الكليات دون وجه حق، وبدأت الشهادات تباع وتشترى علناً.




صارت صفة الشخص كبعثي هي جواز مروره وأمانه في هذا العالم الفاسد، هذه الشخصية المتملقة المرتشية الانتهازية التي لا تتورع عن الإقدام على أي فعل من أجل مصلحتها الخاصة، مهما كان هذا الفعل بعيداً عن القيم والأخلاق.




لم يقتصر الفساد الذي طال المجتمع بشرائحه على صفوف البعث، فمع سياسة كم الأفواه، والإعلام الرسمي التافه وما يقدمه من تسطيح على شاشاته وصحفه، صار نموذج الشخصية البعثية يكاد يكون عاماً، نوع من التماهي ربما.




في الانتقال إلى ما حدث في سوريا إثر ثورة الحرية والكرامة التي رأى فيها الشعب السوري نافذة أمله الأخيرة على طريق الانعتاق من هذا الكابوس الطويل الذي مثله الحكم البعثي والأسدي على حد سواء، وبداية تشكل بعض أجسام المعارضة السياسية السورية، والتي كان من أولى مهامها محاربة هذا النظام الفاسد القمعي وإسقاطه، لبناء دولة القانون والعدالة والمساوة بين السوريين.




بعد الدخول في العام التاسع من عمر هذه الثورة المباركة، يطرح السؤال: هل نجحت الثورة ممثلة بالمعارضة التي طغت على واجهة المشهد في التخلص من آثار تلك الحقبة الطويلة من الفساد والإفساد الذي سببه البعث والأسد؟!. وهل تشكلت شخصية ثورية حقيقية غير ملوثة بتلك الأوبئة؟!.


هذا السؤال ليس اتهاماً لجهة بعينها، بقدر ما هو محاولة لفتح الأعين جيداً أمام تسرب تلك الشخصية البعثية القذرة إلى بعض مفاصل العمل السياسي المعارض.




طالما رأينا ونرى التبعية والارتزاق والشللية والدسائس بأية صورة داخل تشكيلات المعارضة ما تزال ظاهرة للعيان فإن هذا يثبت أن العقلية البعثية، أو ثقافة البعث باقية فينا.


استقراء الشخصية البعثية


استقراء الشخصية البعثية

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!