الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
إيران وروسيا والدستور السوري:
إيران وروسيا والدستور السوري: "البردعة قبل الحمار"!

أحمد طلب الناصر - كاتب وصحفي


يبدي غالبية السوريين قلقهم الواضح نتيجة إهمال بنود القرار 2254 وخصوصاً بند "هيئة الحكم الانتقالية" وليقينهم بأن هذا المطلب قد أصبح من الماضي وتم القفز عليه، مع بقية البنود، واستبداله بآلية صياغة الدستور، ليتحقق بذلك المثل الشعبي السوري القائل "اشترى البردعة قبل الحمار".


الواقع الذي فرضه هذا الطرح يتعارض بالتأكيد مع مصالح الشعب السوري في الخلاص من الاستبداد والدكتاتورية. ويتّفق للأسف مع ما يحاك داخل كواليس المجتمع الدولي.

ولنسأل أنفسنا الآن: ماذا يريد "المعارضون" السوريون من الدستور ومن قوائم صياغته الثلاث، المعارِضة والمؤيدة وقائمة المجتمع المدني؟


الجواب ببساطة شديدة يتمثّل بولادة أو تعديل مواد وفقرات تنقلهم من عصر ما قبل مارس/ آذار 2011 إلى تطبيق ما يمكن تطبيقه من ذلك القرار الدولي المبني على مقررات بيان مؤتمر جنيف يونيو/ حزيران 2012.

وعلى افتراض تحقق مطالب السوريين وتم تبنّي مواد جديدة في الدستور تتوافق مع بنود القرار السالف فيما يتعلّق بعملية "الانتقال السياسي" في سوريا، هل يُعدّ ذلك فوزاً تاريخياً للشعب السوري ضد نظام الأسد؟

للإجابة عن هذا السؤال سنطرح مثالين تاريخيين يحاكيان طرح دستور أعقب "ثورتين" شعبيتين –كما يُفترض- مختلفتين في الشكل والمضمون، لكنهما أفرزتا نظامين متشابهين في الجوهر والسلوك.

المثال الأول يتعلّق بروسيا (السوفييتية)، حين تم وضع دستور جديد للبلاد سنة 1918، أي بعد عام واحد من "الثورة البلشفية".


ورد في أول فقرتين من ذلك الدستور ما يلي: "تعتبر روسيا جمهورية سوفيتية، والسلطة المطلقة فيها للعمال والفلاحين والجنود المنتمين إليه. ويتم تنظيم الجمهورية السوفيتية الروسية على أساس اتحاد حر من الدول الحرة، كدول اتحاد الجمهوريات الوطنية السوفيتية".


وعلى الرغم من أن ستالين لم يغيّر حرفاً واحداً من ذلك الدستور، إلا أن رئاسته كانت مضرب مَثل للدكتاتورية والاستبداد والاستعباد، ليس للشعوب السوفييتية فحسب بل ولدول أوروبا الشرقية التي حكمتها الأحزاب الشيوعية؛ وأول من تم استعبادهم فيها كان العمال والفلاحون، وساد قمع الحريات وتحويل الحكومات فيها من أنظمة ديموقراطية حرّة إلى أنظمة قمعٍ شمولية. ولعل أكثر ما يثير السخط داخل المنظومة السوفيتية يتجسّد في إطلاق مسمى ألمانيا (الديموقراطية) على الجزء الشرقي منها، الخاضع للإدارة السوفيتية وجهاز أمن "الشتازي" الذي تفوق على جهاز الـ "كي جي بي" نفسه، والذي حوّل غالبية الألمان الشرقيين، من مدنيين وعسكريين، لعناصر مخابرات وكُتّاب تقارير.


أما الـ "كونغرس السوفياتي" الذي من المفترض أن يمثّل السلطة العليا للجمهورية، حسب الدستور نفسه، فكان عبارة عن جهة تنفيذية لرغبات الحاكم المطلق. ولن نتطرّق إلى الفقرات التالية من الدستور التي تنصّ على حق الشعوب في تقرير مصيرها بعد ما ذكرناه عن قمع للشعوب داخل غالبية دول أوروبا الشرقية من قبل السوفييت.

أما المثال الثاني من تلك الدساتير "الثورية"، فيتمثّل بالدستور الإيراني الذي أقرّ سنة 1979، بعد ما أُطلق عليه "الثورة الإسلامية" بعام واحد أيضاً.


ومما ورد ضمن فقرات ذلك الدستور، في المادة الثانية على سبيل المثال: "رفض جميع أشكال الاضطهاد، سواء بفرضه أو الخضوع له، وجميع أشكال الهيمنة، سواء بفرضها أو بقبولها". وبالمادة الثالثة: "مكافحة كل مظاهر الفساد والضياع".


ولكن الأهم من كل ما جاء في المادة الثالثة أيضاً كان ما يلي: "طرد الاستعمار كلية ومكافحة النفوذ الأجنبي"؛ وأيضاً: "إلغاء جميع مظاهر الاستبداد والديكتاتورية ومحاولات احتكار السلطة؛ وضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون؛ ومشاركة جميع الناس في تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي" كما وتنصّ المادة السادسة على سيادة العملية الديموقراطية في "انتخاب" الشعب لرئيس البلاد.


حتى هذه اللحظة تسير الأمور على خير ما يرام، ولا نعتقد بوجود من يختلف مع تلك الفقرات الدستورية، بل ولو تمّ عرضها على جميع أمم الأرض لبصموا عليها بالعشرة، ولوقفوا مع أنظمتهم، جمهورية كانت أم ملكية أم برلمانية أم فيدرالية أم "داعشية خلافية على نهج النبوة"، وطالبوها بتبني وتطبيق كامل مواد الدستور الإيراني (الجمهوري الإسلامي) ولغضّوا الطرف عن المادة الخامسة الدّالة على حاكمية "الولي الفقيه" المطلقة وألوهيته طالما أن المواد الأولى نصّت على حرية الشعب ورفض الاضطهاد ومكافحة الفساد وحقّ تقرير المصير وممارسة حق الانتخاب وانعدام ميزة "الأبدية" للرئيس المنتخب؛ فماذا تبتغي الشعوب أروع وأجمل من ذلك؟!


هذا ما ينصّ عليه دستورها، أما التطبيق فمناقض تماماً، فإيران اليوم تجسّد المعنى الحقيقي للاستعمار، الذي يدّعي دستورها طرده ومكافحة النفوذ الأجنبي القائم على أساسه، فطبّقت أبشع صوره العسكرية والسياسية والاقتصادية والطائفية داخل سوريا ولبنان والعراق واليمن وهلم جرّاً. هذا بالنسبة لسياستها الخارجية، أما داخلياً فقد غابت الحريات السياسية والاجتماعية وحق تقرير المصير الذي نص عليه الدستور، وساد بدل ذلك التمييز العنصري بين مكوّن القومية الفارسية المهيمن على إدارة مؤسسات البلاد السياسية والعسكرية والدينية، وبين بقية القوميات المشكّلة للدولة الإيرانية، من بلوش وكرد وتركمان، وعرب (الأحواز) المحتلة منذ ما يقرب من مئة عام.


والحال، فإن معضلة الدستور الحقيقية التي يعانيها السوريون اليوم، لا تتعلّق فقط بلوائح اللجان وشخوصها الـ 150، ولا بإقراره قبل عملية الانتقال السياسي الذي نص عليه القرار 2254، بل تكمن خطورتها في إشراف دولٍ كروسيا وإيران على إنتاجه، الدولتان المحتلتان سوريا ومصيرها وشعبها ومقدّراتها.


وبوجود نظام الأسد على سدّة السلطة في دمشق، مهما توافقت نصوص الدستور مع رغبات الشعب المطالِبة بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، فإن أي دستور للبلاد مآله إلى السقوط دون أدنى شكّ بالتزامن مع استمرارية تسلّط أجهزة الأمن والجيش، المُدارة من قبل الأسد، على رقاب السوريين ومصائرهم.


سيسقط الدستور مع أول عملية اعتقال تعسّفي يطال مواطن، ومع أول إهانة لمعلّم أو عامل أو صحفية، بل سيسقط مع أول تقرير أمني يستهدف مفكّراً أو أديباً أو ناشط مجتمع مدني؛ باختصار شديد: سيُرمى بالدستور في أقرب مقبرة جماعية مع أول صفعةٍ تُـوَجّه لسوري من عنصر شرطة أو مخابرات أو ابن أصغر ضابط في جيش الأسد.


 


 




العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!