الوضع المظلم
الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
أوروبا على مفترق الطريق
منى غانم

ليس خافياً على أحد خفوت الدور الأوربي في العملية السياسية السورية، خاصة بعد انتقال المسار التفاوضي في جنيف بشكل مطلق إلى مسار "الاستانا" الخاضع بشكل كلي للنفوذ الروسي والتركي والإيراني. لا تشكل العملية الدستورية أي فرصة لتدعيم الدور الأوربي في العملية السياسية السورية، فاللجنة الدستورية، وإن كانت بجنيف، هي حصيلة محاصصة سياسية دولية بين دول "الاستانا" بمباركة أمريكية وأممية.


يترافق ضعف الدور الأوربي هذا بخلافات كثيرة في مواقف دول الاتحاد الأوربي حيال قضية إعادة افتتاح سفاراتهم وقنصلياتهم في دمشق، وينقسم الأوربيون بين مدافع عن أهمية إعادة فتح قنوات سياسية مع النظام السوري، كإيطاليا مثلاً، وبين ممانع بشدة ورافض للفكرة كونه يراها "أعادة تأهيل للنظام " كفرنسا مثلاً.


في السياق السوري، تتعرض الدول الأوربية إلى ضغوط تركية كبيرة عليها للحصول على الدعم المالي اللازم لدعم مشاريع الرئيس التركي رجب طيب أوردغان في إعادة إعمار "الأراضي التي تقع تحت سيطرته" في سوريا في تغير واضح لتوازن القوى في العلاقة التركية-الأوروبية.


عمل الرئيس التركي، بعد أن فقد الأمل بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، على تغير استراتيجية تعامله مع الدول الأوربية، ليصبح هو الأقوى والأكثر تأثيراً من خلال استخدام ورقة اللاجئين السوريين التي يلوح بها كلما احتاج، معتمداً على القلق الأوروبي من تزايد عدد اللاجئين القاصدين الشواطئ والأراضي الأوروبية.


ينقسم الأوروبيون فيما بينهم حول طريقة التعاطي الأمثل مع تركيا ما بين رافض للابتزاز التركي، وبين قلقٍ من إرسال تركيا لأفواجٍ جديدة من اللاجئين السوريين، خاصة مع تصاعد العمليات العسكرية في إدلب والتضيّق الذي يقوم به حزب العدالة والتنمية على اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا لدفعهم للعودة إلى مناطق "نبع السلام" و"غضن الزيتون" وغيرها من المناطق السورية التي تسيطر عليها تركيا.


لا يبدو الوضع أكثر استقراراً في حلف الناتو، الذي شهد صراعات خفية في ذكرى تأسيسه السبعين، فلقد ساند الرئيس الأميركي مواقف الرئيس التركي في مواجهة نظيره الفرنسي على خلفية وصف الأخير لحلف الناتو بالموت السريري، رغم أن الرئيس الأميركي كان أول من انتقد الحلف ووصفه بالبائد عشية استلامه مقاليد الحكم في البيت الأبيض.


في السياق الليبي، يعمل كل من الرئيس التركي والرئيس الروسي على خلق الظروف الملائمة لبدء التفاوض بينهما حول مستقبل ليبيا. سيساهم خلق أي مسار تفاوضي بين الدولتين حول ليبيا على زيادة تهميش الدور الأوروبي هناك، خاصة في ظل الخلافات الإيطالية-الفرنسية حول مستقبل البلاد.


تساهم التغيرات السياسية التي ترسمها تركيا- أوردغان في تغير الكثير من التوازنات الجغرافية والسياسية التي يعتمد عليها الأمن القومي الأوربي. فمنذ تأسيس حلف الناتو، كانت تركيا الحامي المخلص لحدوده الجنوبية، كما كانت الداعم والمساند الأول للسياسات الغربية في مناطق مختلفة من العالم.


يعمل أوردغان من خلال استدارته نحو روسيا على تغير هذه التوازنات في الشرق الأوسط ودول البلقان والبلطيق، كما يعمل على إعادة إحياء الإسلام السياسي كعامل أساسي في تشكيل النظام العالمي الجديد، الأمر الذي سيكون له ارتدادات كثيرة على الداخل الأوروبي، خاصة مع تصاعد النفوذ الأوردغاني في المجمعات الإسلامية في أوروبا.


في الوقت الذي يعتقد فيه الكثيرون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يشكل خطراً على هذا الاتحاد، تبدو المخاطر أكثر وضوحاً وتهديداً في مناطق أخرى من العالم، خاصة في الحدود الجنوبية. كما يشكل ضعف الدور الأوروبي في المسارات السياسية للدول التي شهدت "الربيع العربي" تهديداً لأي إمكانية لتغير سياسي ديمقراطي في تلك البلدان كون أوروبا الجهة الوحيدة الحاملة لأجندة الديمقراطية وحقوق الإنسان.


يحتاج الاتحاد الأوربي إلى إعادة النظر في سياساته تجاه ما يحدث في دول الشرق الأوسط، ليعيد أحياء أجندة الديمقراطية والحكم الرشيد كحق أصيل لشعوب تلك المنطقة. سيشكل بناء دول قوية ديمقراطية مستقرة على الحدود الجنوبية لحلف الناتو حمايةً لدول لأوروبا من كل التهديدات السياسية والأمنية. كما سيشكل مثل هذا الامر تحقيقاً لتطلعات شعوب المنطقة في الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية مما يعزز ارتباط أفرادها بدولهم ويقلل من احتمالات الهجرة و اللجوء.


ما لم تقم أوروبا بدورها التاريخي هذا، سيستمر شعوب تلك المنطقة بركوب عباب البحر شمالاً بحثاً عن حريتهم وكرامتهم المفقودة جنوباً.


كاتبة سورية

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!