الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • "سلة سوريا الغذائية" بين الهجرة الساحقة لأبنائها أو البقاء المفخخ لحياتهم

شفان إبراهيم

بالرغم من مخاطر البحار في فصل الشتاء، إلا أنها لم تعد تقف عائقاً أمام من "تحتل" رغبة الهجرة عقولهم وقرارهم. ولم يعد غريباً أن تسمع القواعد الاجتماعية في عموم الشمال الشرقي لسوريا، عن أعداد من المفقودين في البحار والغابات، وبل أن تستنفر في استقبال جنازاتهم.

حيث تحول اليأس الجماعي لأبناء شمال شرق سوريا؛ نتيجة الوضع العام الفاقد لأيَّ آفاقٍ مستقبلية، إلى عقلٍ محرك ومحرض لكل فعل يقود للهجرة، يأسٌ يلعب الدور المدماك في التأسيس للسلوكيات والتطلعات صوب مستقبل واعد خارج البلاد. ومع أن الهجرة لم تتوقف عبر تاريخ سوريا، بل وتحولت إلى عنوانٍ عريض وعام؛ نتيجة للفقر والفقد والوضع الأمني. لكن أن تتصدر رغبة الهجرة حياة معظم قاطني "سلة سوريا الغذائية" -الجزيرة السورية- هو السؤال الوجودي لنمطية ونوعية الحياة الموجودة؛ في ظل مواردها المالية الضخمة، وخروجها عن سيطرة الحكومة السورية، وتحكم الإدارة الذاتية بكامل مقدراتها الاقتصادية، ووجود فرص حقيقية للاستقرار تتطلب تنفيذ شروطاً غربية - أمريكية على رأسها هويّة وشكل الإدارة الذاتية، وعلاقتها مع المكونات، لذا لا شبه بين الموجة الحالية للهجرة، ومثيلاتها عبر نصف قرن.

بالعموم توجد أربع عوامل مركبة تمنح موجات الهجرة الحالية لشمال شرق سوريا سياقاً مختلفاً عن المحافظات أو الموجات الأخرى للهجرة، أولها: الفقر، بالرغم من الموارد الاقتصادية الهائلة من كميات الطاقة، الأراضي الزراعية، المعابر ووارداتها الاقتصادية، والكتلة الكبيرة من الكفاءات والموارد البشرية الكفيلة بتوفير حمولات تشغيلية وتوظيفية ثابتة، لكن الجوع والخوف هما العنوان الأبرز لكل تفاصيل الحياة التي تدفع للهجرة. وثانيتها: صعوبة تصنيف أو فرز الهويّات الاجتماعية والسياسية للمهاجرين على أسس عرقية أو قومية، أو انتمائية؛ فالهجرة شكلت هويّة جامعة جديدة، وهي الانتماء الاجتماعي لمفهوم وفكرة الهجرة بأيّ وسيلة كانت. وثالثتها: اقتصرت الهجرة سابقاً بشكل عام على الشباب، أو الباحثين عن رفاهية العيش سواء للعاطلين عن العمل أو قسم محدد من ذوي التخصصات الطبية والعلمية المختلفة، أما حالياً تضاعفت رغبة عائلات بأكملها من نساء ورجال وقاصرين وعجائز وأصحاب الكفاءات وحاملي الشهادات العلمية، من أطباء وأكاديميين وكتّاب ومدرسين. كلهم يرغبون بالهجرة بكل أشكال الخطر التي تعتري طريقهم في غابات بلغاريا وصربيا أو البحار بين مختلف الدول، وبالرغم من زيادة عدد المفقودين والذين فقدوا حياتهم في تلك المناطق جراء التعب والإرهاق والخوف والجوع، لكنها لم تشكل مخاوف على قرارهم بالهجرة، وأشارت تقديرات غير رسمية إلى هجرة أكثر من 3100 عائلة من مختلف مكونات محافظة الحسكة وحدها، منذ بداية النصف الثاني لعام 2022.

ورابعتها: لم تعد الهجرة تعتمد على قوارب الموت للوصول إلى اليونان بتكلفتها المنخفضة، بل تم تحديث أسلوبين قديمين بآليات جديدة، بالرغم من التكلفة العالية، إحداها الوصول إلى تركيا عبر رأس العين بمبلغ يقترب من /3500$/ ثم تبدأ رحلة الوصول إلى اليونان وصربيا عبر التنسيق بين شبكات المهربين والإتجار بالبشر، والتي تقوم مهمتهم على إدخال المهاجرين إلى الاتحاد الأوربي، وخاصة دولتي النمسا وألمانيا لقاء مبلغ مادي يصل لأكثر من /14/ ألف دولار عن كل شخص، أو تكرار استخدام مطارات دول الجوار والاعتماد على جوازات سفر مزورة أو تأمين فيز للوصول النظامي لقاء أكثر من /22/ ألف دولار عن كل شخص. والأكثر غرابة في الأمر أن الدعاية للهجرة تتم بسلاسة وسهولة كبيرة، فمواقع التواصل الاجتماعي تساهم في التحريض على الهجرة عبر صور لعمليات هجرة غير نظامية، والعروض "المميزة" للهجرة مع خطابات تحفيزية للرحيل من البلاد، ووضع أرقام للمهربين للتواصل علانية، دون أي تدخل من أيّ جهة؛ خاصة وإنها عملية إتجار بالبشر. ويبدو أن الجميع مشترك بسياسة التطفيش والهجرة التي هي في صُلبها تهجير.

والحق يقال إن العيش في هذه المنطقة أصبح أشبه بالانتحار في الوعي الظاهر والعقل الباطن معاً، وأصبحت القواعد الاجتماعية تتعرض لما لا تتمكن من تحمله من هول صعوبة العيش. ومع تعدد الأسباب الدافعة صوب توسيع رقعة الهجرة، ما عاد ممكناً اعتبار أن الوضع المادي فقط هو المحرض للهجرة، وبمتوسط حسابي لعدد أفراد العائلة المكونة من أربع أشخاص متفاوتي الأعمار فإن عشرات الآلاف من الدولارات، ثمن الهجرة غير الشرعية، كفيلة بفتح مشروع صغير في المنطقة الغنية بمواردها، لكن القضية ما عادت متعلقة بتوفير لقمة العيش، بل إن غياب الأمن بالمفهوم العام والمتعارف عليه الأمن الوطني، وشعور الخيبة والخذلان من كافة الأطراف، وفقدان أي بوادر للعيش الكريم والآمن والاستقرار في ظل التشتت والضبابية التي تسيطر على الشأن العام، وتضخم الأزمات المعيشية والإذلال الحاصل لكرامات القواعد الاجتماعية، والتلاعب بمصير أبنائهم ومستقبلهم التعليمي، والإرهاق والخوف الذي نال من قاطني هذه المنطقة جراء الوعود والتبريرات الخطابية السلطوية الكاذبة تبقى العناوين الأبرز للهجرة، يُضاف إليها العمل على زيادة حجم الضرائب على الواردات من معبر سيمالكا الحدودي مع كردستان العراق، والتي ستشكل الضربة القاصمة للمعيشة والبقاء في هذه البلاد. كل ذلك خلق بيئة محفزة مناسبة للهجرة، وبل خلقت هزات اجتماعية محرضة ومحركة لمشاعر العشق للهجرة، خاصة ذات الطابع العائلي، غير آبهين بما تخلقه الهجرة من تغيير بيئة الانتماء الاجتماعي والهوياتي، وما يمكن أن تتسبب حالات فشل الاندماج في الفردانية والانعزال والاغتراب وغيرها من الأمراض النفسية للجوء، خاصة لأصحاب الكفاءات والشهادات الذين يعجزون عن توفير شروط تعديل الشهادة والعمل بمقتضاها، والتي تشير الاستطلاعات إلى أن أعداد كبيرة من أبناء المنطقة اللاجئين إلى أوربا من ذوي الكفاءات العلمية، إنما يتوجهون للعمل في المطاعم والفنادق وغيرها؛ كأقصر طريقٍ لجمع المال، وسداد الديون المتراكمة عليهم.

وصحيح أن الهجرة قرار شخصي وحق طبيعي، ومنذ فجر التاريخ لم تنتهِ ولم تتوقف موجات الهجرة حتّى من أعظم الديمقراطيات ودول الرفاه الاقتصادي، لكن المطلوب اليوم وليس غداً، الآن وليس بعد قليل إيجاد مناخ سياسي اجتماعي اقتصادي يساعد على الاستقرار أفضل بكثير من المتابعات الأمنية والمضايقات لعمل الصحفيين والمتاريس أمام أي عمل اقتصادي، وتوفير أبسط مستلزمات المعيشة والبقاء على هذه الأرض الملعونة والملوثة بداء قياداتٍ لم تجد في السياسية والإدارة سوى مسارات النفاذ للفساد المالي؛ لأن الهجرة هي إبادة للسوريين بمكوناتهم؛ فهي تخلق في نفسية الراغب بالهجرة نزعة عنيفة اتجاه كل شيء لأجل هدفه، وإن كانت الهجرة موجة عارمة في كل سوريا، وربما كانت أعداد المهاجرين من مطار دمشق أضعاف مضاعفة من مثيلاتها من الجزيرة السورية، سلة سوريا الغذائية، لكن عجز سلطة حاكمة بكل مقدراتها المالية والفرص المتاحة أمامها لنيل الاستقرار ولو جزئياً وهي المتعامية عنها، يزيد فوق الهمِّ منغصات إضافية.

بالمقابل يتفشى خطاب كلاسيكي ممل مصدره الأحزاب وهياكل الحكم المحلية المختلفة حول ضرورة التشبث بالأرض، وكأن الهجرة هي المتسبب الوحيد بأزمات البلد العميقة، دون البحث في أبسط آليات العيش، ويدرك أصحاب ذلك الخطاب أن الأرقام والحقائق تظهر عكس ما يذهب إليه المنافخون في تلك الخُطب، وخصوصاً أن من هاجر أو يود الهجرة في هذا العام، هم أساس الثبات والصبر لعقدٍ كامل على كل أشكال الفقر والإهانة، وسنوات التحمل ومواجهة الإرهاب والعنف، وظلوا متمسكين بالخطاب الوطني ضمن دوائر النار، دون أن يتلقوا أيّ تقدير أو اهتمام. وربما جاز الاعتقاد أن أعداداً ضخمة من المواطنين وبعد عقود طويلة، تحولوا إلى "لاجئين مؤقتي الإقامة" يتحينون الفرصة المناسبة للهجرة، لذا يبدو أن المشتركات بين الراغبين للهجرة إنهم ظلوا متمسكين بأمل مفقود، وحان وقت الاستدارة نحو جغرافية جديدة.

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!