-
مستقبل الحرب المعرفية الصينية: دروس من الحرب في أوكرانيا
ترجمات ليفانت/جيوستراتيجيا
كأن العالم بحاجة إلى المزيد من الأدرينالين لتأتي زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان لتضخ المزيد منه في شرايين القادة الصينيين. لنضع التحذير الذي وجهته الصين للولايات المتحدة الأمريكية في الاعتبار ولنرَ ما يقوله أحد أعمدة عمليات الدفاع في الجيش الياباني كويشيرو تاكاجي عن جيش جيرانه، الجيش الصيني.
في مقاله عن مستقبل الحرب المعرفية أو الإدراكية الصينية نشره في موقع "وور أون روكس"، يستحضر العقيد تاكاجي الزميل الزائر في معهد هدسون أفكار الحرب الباردة بقوله إن قادة جيش التحرير الشعبي الصيني يعتقدون بإمكانية التأثير على دماغ العدو وإدراكه بشكل مباشر باستخدام أخر ما توصل إليه العلم في مجال الذكاء الصنعي وعلم الأعصاب ومنصات التواصل الاجتماعي.
ويأمل قادة الجيش من خلال هذه العلوم في إخضاع العدو دون قتال. والسؤال هل ستغير دروس الحرب في أوكرانيا تفكيرهم حول هذا الموضوع -وبالتالي ستغير خططهم للغزو المحتمل لتايوان في المستقبل؟
يصف الكاتب حرب روسيا على أوكرانيا بالصراع الشرس حول إرادة القادة والرأي العام بين شعوب أوكرانيا وروسيا والمجتمع الدولي، أصبحت فيها قيمة المعلومات ووسائل نشرها عاملاً أساسياً في تشكيل نتيجة الحرب. بيد إن الحرب المعرفية أو الإدراكية لها حدود يظهرها هذا الصراع وهي توفير ميزة استراتيجية مستقلة خاصة به.
يعتقد رجال الحرب الصينيون أن ساحة الحرب المستقبلية ستكون الدماغ البشري ولكن الغزو الروسي أجبرهم على توخي الحذر في الاستثمار بكثافة في تلك النظرية. لا يمكن للحرب الإدراكية وحدها أن تربح الحروب.
وبالمثل، يجب على المحللين الغربيين توخي الحذر حتى لا يفترضوا أن الصين ستعتمد على التدابير المعرفية أو غير المادية الأخرى لإخضاع تايوان. على الرغم من أن التأثير على إدراك العدو كان منذ فترة طويلة موضوعاً بارزًا للنقاش بين المنظرين العسكريين الصينيين، إلا أنهم قد لا يستخلصون نفس الدروس من مقاومة أوكرانيا التي يعتقد المعلقون الغربيون أنهم، أي الصينيون، يقومون بذلك.
ما هي الحرب المعرفية أو الإدراكية؟
يصف أحد المنظرين الصينيين الحرب المعرفية بأنها استخدام الرأي العام والوسائل النفسية والقانونية لتحقيق النصر. إذ لطالما اعتبرت الصين أن هزيمة العدو دون قتال جسدي أمر مثالي تحقيقاً لمقولة صن تزو بأن التفوق الأسمى يكون بكسر مقاومة العدو دون قتال. كما حددت لوائح العمل السياسي لجيش التحرير الشعبي “المعارك الثلاث” التي سيجريها جيش التحرير الشعبي. والمعارك الثلاث هي:
حرب الرأي العام للتأثير على الرأي العام المحلي والدولي، والحرب النفسية لصدمة وإحباط معنويات الجنود والمدنيين الأعداء، والحرب القانونية لكسب الدعم الدولي من خلال القانون الدولي والمحلي. وبالتالي، ترتبط المعارك الثلاث ارتباطًا وثيقًا بالحرب المعرفية.
يتحدث تاكاجي عن أبحاث الصينيين التي تعلي من شأن حرب المعلومات في المستقبل التي ستدور في مجالات ثلاثة مادية ومعلوماتية ومعرفية ليتحول الأخير إلى المحور الأساسي في الحرب القادمة. وهذا المجال يتكون من إرادة القائد والرأي العام. فقد بدأ الصينيون التركيز تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومؤخراً كان الذكاء الصناعي أو “علم الدماغ” محور تركيزهم إضافة إلى التقنيات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
يستشهد تاكاجي بكلام شخصيات صينية رئيسية الأول رئيس جامعة هندسة المعلومات التابعة لقوات الدعم الاستراتيجي لجيش التحرير الشعبي قوه يونفي والثاني تشي جيان قوه النائب السابق لرئيس أركان جيش التحرير الشعبي عندما أكد الأول على تغير شكل الصراع والحروب لتشمل العلوم الرقمية وغيرها من علوم الدماغ. فالقتال في البيئة المعرفية يؤثر مباشرة على الدماغ والعواطف والدوافع والأحكام والأفعال وحتى التحكم في دماغ العدو. من هنا يُعتبر الدماغ ساحة المعركة الرئيسية للحرب المستقبلية. فهو محرك الإدراك ومن يسيطر عليه يفز. ويؤكد الاثنان على أن هذا الأسلوب هو تجسيد لمبدأ صن تزو بهزيمة العدو دون قتال.
وأشار الكاتب إلى دمج الصينيين مفهوم الحرب الإدراكية مع الحرب المعلوماتية بغية تعزيزه. وللحرب الذكية أربع ميزات هي زيادة قدرات معالجة المعلومات واتخاذ القرارات بسرعة واستخدام الهجمات المكثفة والحرب المعرفية.
ويذكر تاكاجي المبدأ العام الذي يسير عليه الصينيون فقد صرحوا أن الإدراك البشري وتحديداً للعدو هو محور الحرب الذكية. وقال تشي جيان قوه أن من يربح في سباق تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي من الجيل الجديد سيكونون قادرين على التحكم في شريان الحياة للأمن القومي: الإدراك البشري، والتحكم به مباشرة أو لا شعورياً يؤدي إلى بلبلة العدو وبالتالي استسلامه.
ولكن تاكاجي ليس متأكداً من الطريقة التي ستستخدم الصين بها التكنولوجيا المستقبلية للسيطرة على دماغ العدو. مع التكنولوجيا المتاحة حاليًا، يبدو أن الجيش الصيني يفكر في الترهيب من خلال الأعمال العسكرية واستخدام المعلومات المضللة.
يشمل التخويف المناورة ونشر القوات في مواقع محددة، والتحضير لعمليات وحدات الأسلحة النووية الاستراتيجية والقيام بتدريبات عسكرية لأغراض التخويف. يمكن نشر المعلومات المضللة عبر الإنترنت والبث التلفزيوني. ويشمل أيضًا خداع استخبارات العدو والمراقبة وأنشطة الاستطلاع بوسائل كهرومغناطيسية أو إلكترونية لتضليل قرار القائد.
وللصينيين مدافعون عن الحرب الذكية منهم بانغ هونغ ليانغ، الذي يذكر مجموعة واسعة من الإنجازات التكنولوجية الأمريكية وأهميتها في التأثير على الإدراك البشري. على سبيل المثال، ذكر أن الأنظمة غير المأهولة مثل فيروسات وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تتلاعب بالرأي العام، وأنه في المستقبل يمكن للأنظمة غير المأهولة شديدة الصغر التي تشبه الحيوانات الصغيرة أن تدخل سرًا غرف الرئيس أو غيره من صانعي القرار الرئيسيين لتخويفهم أو قتلهم، وبالتالي إخضاع إرادة العدو والسيطرة عليها.
ولكن ما مدى إمكانية تطبيق هذا المفهوم؟ وكيف تغير دروس الحرب في أوكرانيا هذه النظريات؟ وهل سيطرأ تغيير عليها؟ هذا ما سيجيبنا عليه كويشيرو تاكاجي.
حدود الحرب الإدراكية: مظاهر الحرب الأوكرانية
يقول تاكاجي أن صانعي القرار الصينيين لم يناقشوا بعدُ علنًا دروس الحرب في أوكرانيا. ولكن دراسات أميركية تشير إلى إمكانية تغيير في خطط الصين لغزو تايوان. منها ما يشير إلى التكلفة الباهظة لهذا الغزو وتراهن الصين على استسلام تايوان في النهاية. ومنها ما يقول بتوجيه الصين ضربة نفسية لتايوان بغية كسر إرادتها بالطرق التالية: التهديد النووي لعرقلة التدخل الأمريكي، والعزل المادي بضرب طوق بحري واغتيال القيادات. وأخرى تشير إلى عمليات تسبق الهجوم كالعمل على تقسيم المجتمع التايواني ونشر معلومات مضللة وقطع الاتصالات.
يرى تاكاجي معقولية هذه الطروحات نظراً لأن المسؤولين الصينيين يعولون على السيطرة على الإدراك البشري كونه محور الحرب وتطبيق مقولة جدهم بإخضاع العدو دون قتال وينظرون بعين الدارس إلى ما يجري في أوكرانيا. ولكن هل سيعتمدونها في غزو تايوان؟
ولكن هذه الحرب الإدراكية كما يراها الصينيون تعتمد تكنولوجيا متقدمة لم تولد بعد. ولكن الحرب الأوكرانية تستحق الدراسة من حيث تطبيق المبادئ الصينية في الحرب الإدراكية وهي حرب الرأي العام التي تؤثر على الرأي العام المحلي والدولي للحصول على الدعم، والحرب النفسية التي تصدم وتحبط معنويات السكان العسكريين والمدنيين للعدو.
ويقدم تاكاجي مثالاً عن التلاعب بالرأي العام الدولي. كان ذلك عام 2014 عندما احتلت روسيا شبه جزيرة القرم بأسلوب ذكي من خلال “الرجال الخضر الصغار”. نفى بوتين علاقة روسيا بهدف كسب الوقت في الفترة الحرجة إبان الاستفتاء الزائف لضم الجزيرة ومنع تدخل المجتمع الدولي.
كما استخدمت روسيا وسائل الإعلام العامة وناشري المعلومات المضللة لترويج “قمع السكان الروس في أوكرانيا” بهدف إضفاء الشرعية على الغزو الروسي وإقناع المجتمع الدولي بالخطأ الأوكراني. ومن هذه المعلومات أخبار مزيفة عن “مذبحة أوكرانيا بحق السكان الموالين لروسيا في أوديسا” و”التستر الإعلامي للولايات المتحدة عليها”.
تشوشت المعلومات وزُرعت تصورات خاطئة في المجتمع الدولي. لا تملك روسيا مفهوماً للحرب الإدراكية وتستخدم بدلاً منها مفهومًا للمعلومات والمواجهة النفسية. ويرى الصينيون أن ما قام به الروس هو مايؤمنون به وقد نجحت فيه روسيا عام 2014، إلا أنها فشلت في ذلك في غزوها على أوكرانيا.
ويتجلى الفشل للدارس الحصيف ببقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في عاصمته كييف متحدياً بشجاعته التهديدات الروسية ملهماً حكومته في عملها بنشر معلومات دقيقة والحفاظ على وحدة الشعب الأوكراني وكسب دعم المجتمع الدولي والحصول على المساعدة المادية من العديد من البلدان. كما استخدموا معلومات من مصادر مفتوحة ومعلومات استخبارية قدمتها الولايات المتحدة لمحاربة الجيش الروسي ولإظهار الشجاعة الأوكرانية والفظائع العسكرية الروسية للمجتمع الدولي.
لعب الدعم الأمريكي دوراً محورياً في هذه الحرب المعرفية. استخدمت الولايات المتحدة استراتيجية ما قبل الحرب كاشفةً بسرعة عن معلومات سرية لنشر قرار بوتين بغزو أوكرانيا قبل بدء الحرب. أشادت العديد من المقالات بهذه الاستراتيجية: لقد قللت من مصداقية السرد الاستراتيجي الروسي مقدمًا وعززت بيئة من التماسك الأكبر بين الديمقراطيات، مما أدى إلى دعم مادي لأوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الحماية التي توفرها القوات الإلكترونية الأمريكية ودعم شركات التكنولوجيا الفائقة دورًا أساسيًا في الحفاظ على البنية التحتية للمعلومات والاتصالات في أوكرانيا، وبالتالي تمكين أوكرانيا من نشر المعلومات إلى العالم بسرعة.
نرى إذاً تفوقاً أوكرانياً، بقيادة الولايات المتحدة، على جبهة الحرب الإدراكية وإن على المدى القصير. كما نرى أيضاً أن القوات المسلحة الأوكرانية هي التي دافعت عن العاصمة كييف ضد زحف الوحدات المدرعة الروسية وحررت أجزاء من أراضيها، وليس الحرب المعرفية وتطلب لذلك المزيد من المساعدات المادية.
ولكن التفوق الأوكراني في الحرب الإدراكية ليس مضموناً على المدى الطويل نظراً لإمكانية تقلب الرأي العام الدولي وإمكانية استعادة روسيا سيطرتها على الروايات الزائفة. فروسيا تعمل حالياً على تقوية نظامها القمعي بفرض أحكام بالسجن تصل إلى 15 عامًا لنشر معلومات تختلف عن التصريحات الحكومية الرسمية وهذا عامل إيجابي في الحرب الإدراكية الداخلية أي تماسك الجبهة الداخلية وهو الحد الأدنى من عناصر مواصلة القتال.
يرى الكاتب أن البلدان يتنافسان على كسب المجتمع الدولي والداخل مع ترجيح الكفة لروسيا على المدى الطويل. فهذه الحرب تبين الأهمية الاستراتيجية لنشر المعلومات. ويستنتج الكاتب أن الحرب الإدراكية لن تفوز بالحرب وحدها ويبقى الحل الجذري لأوكرانيا الحرب المادية. من هنا برأي الكاتب تكون تنظيرات الصينيين غير واقعية بهذه التكنولوجيا ولن تتمكن من تركيع تايوان إلا بالغزو المباشر.
هل تمنح التقنيات الناشئة وحدها ميزة إستراتيجية؟
يرى الكاتب أنه بإمكاننا الإجابة على السؤال من الحرب الإلكترونية في أوكرانيا. رغم كل التحذيرات من المسؤولين الحكوميين ورغم الهجمات الإلكترونية التي نفذها الروس على المفاصل الأوكرانية لم تكن تلك الهجمات حاسمة ولم تكسب روسيا أي ميزة استراتيجية. ويستنتج الكاتب أوكرانيا أن الحرب السيبرانية لا تحقق تأثيرًا استراتيجيًا من تلقاء نفسها، ولكن من الأفضل استخدامها كأداة لدعم العمليات البرية والبحرية والجوية. إذا أدرك العسكريون الصينيون ذلك فسيركزون على العناصر المادية في الحرب وبعدها الحرب السيبرانية.
لا صن تزو صاحب فكرة إخضاع العدو دون قتال، ولا الاستراتيجي البريطاني ب. ليدل هارت الذي دافع عن استراتيجية النهج غير المباشر، كلاهما لم يقدما نصائح محددة حول كيفية وضعها موضع التنفيذ. وقد أثبت التاريخ أن المعارك الجسدية هي التي أخضعت إرادة العدو.
توصيات للولايات المتحدة وحلفائها
ستستفيد الصين من هذه الدروس بالتركيز على القوى المادية وأيضاً القوى المعلوماتية لذلك على الولايات المتحدة وحلفاؤها أولاً فهم نظرة الصين إلى الحرب الإدراكية وتحليلها. وثانياً تأطير نظرتهم الخاصة حول تلك الحرب واستخدامها بالتنسيق مع القوى المادية على الأرض.
أعده وحرره: وائل سليمان
ترجمه: وائل سليمان_ فادي حسن
العقيد كويشيرو تاكاجي زميل زائر في معهد هدسون. جميع وجهات النظر في المقال خاصة به. وهو نائب رئيس سابق لقسم العمليات الدفاعية ، قسم العمليات الأول، هيئة الأركان المشتركة اليابانية، وقد صمم خطط وأوامر عمليات مشتركة في البيئة الأمنية القاسية في شرق آسيا.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!