الوضع المظلم
السبت ٠٥ / أكتوبر / ٢٠٢٤
Logo
لولا النسيان لمات الإنسان
معراج أحمد معراج الندوي

ليس من أكبر النعم على الإنسان النسيان، لولا النسيان لكانت الحياة لا تطاق، فالنسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة. لقد جعل الله النسيان أرضاً تمتصّ الكثير من الأحزان حتى ينقذ الناس من أحزانهم، فالنسيان جزء مهم من دورة الحياة واستمراريتها، لولا النسيان لمات الكثير بعد موت أهاليهم أو أبنائهم أو أحبائهم.

النسيان في حدوده الطبيعية نعمة فهو راحة ذهنية وتخفيف من الضغوطات الفكرية وراحة مما يصيب الإنسان من الهم والحزن، فكأن النسيان أداة تصفية وتنقية لما قد يواجهه الإنسان في حياته. النسيان راحة للعقل وسكينة للقلب، ربما تمتلئ عقولنا بالعديد من التفاصيل التي لا قيمة لها، سوف تنفجر عقولنا من كثرة المعلومات التي لا قيمة لها، لذلك جاء النسيان لينتقي بعض الأشياء ليخزنها والبعض الآخر ليمحوها من الذاكرة.

والذاكرة أحسن خادم للعقل والنسيان أحسن خادم للقلب، ومن إيجابيات النسيان أنّه يحول الذكريات العصيبة إلى نقاط قوة عبر الاتعاظ بما سبق وجعلها حوافز ودوافع نافعة لعيش أفضل، وأنّ نسيان المؤلم والإحباطات أمر إيجابي يدفع الإنسان إلى الأمام، بينما تبقى أحداث مرابطة في الذاكرة يمكن أن تقوم بدور المحفز والمشجع على المحاولة من جديد.

النسيان نعمة كبرى لو سُلبت من هذا الإنسان لما تلذذ بحياته، وتعطّلت مسيرته وانقطع أمله. ولولا نعمة النسيان لأُصِبنا بتخمة فكرية، ويرى الناقد الروائي السعودي المعروف عبد الرحمن منيف أنه "لولا النسيان لمات الإنسان من كثرة ما يعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجري من حوله".

النسيان نعمة، لولا النسيان لأسرنا الماضي ولخنقنا الحاضر، ولذا فإن النسيان هو العكاز الذي نتوكأ عليه لنشق طريقاً وعراً إلى الأمام. لولا النسيان لظَل الإنسان حبيساً داخل أحزانه، وما تمتع بمتاع الحياة، لولاه لجعله دائم التذكر للأشياء التي تنغص عليه حياته.

إن النسيان من أهم الفعاليات الإيجابية التي تحقق للإنسان قدراً عالياً من التأقلم والتكيف مع العالم الخارجي ومع ذاته، وله من الانعكاسات المريحة على مختلف جوانب شخصيته الفكرية والنفسية والاجتماعية، فهو يعبر بالفرد صوب مرحلة ما بعد الضرر تاركاً خلفه ماضياً محبطاً وربما سيصبح معرقلاً للنمو والتقدم.

النسيان يدفعنا للأمام ويجعل الإنسان دائم المحاولة والبدء من جديد بعيداً عن الإحباطات التي قد يكون مر بها ولكن نسيانها جعله أكثر إصراراً وتحدياً لنفسه والمحاولة مع الحياة بشكل ونمط مختلف أكثر إيجابية، ولكن لو استسلمنا للسلبية وعدم مساعدة أنفسنا على النسيان، فهذا سيظّل عائقاً أمامنا للتقدم ومواصلة الحياة بنجاح.

النسيان نعمة، لأنّه ضروري لكي تستمر الحياة، فالحياة قاسية وفيها الكثير من الذكريات المؤلمة التي تسكننا إن لم نحاول نسيانها والانطلاق من جديد، أما الذكريات الجميلة فتبقى في الذاكرة لأنّها تعطينا كل يوم أملاً جديداً.

النسيان نعمة كبيرة من نعم الله على خلقه، فماذا لو تذكر الإنسان كل شيء ولم ينسَ، ومن المؤكد أنه سيصاب بالجنون، فلا بد من النسيان حتى يكون الإنسان إنساناً سوياً صحيحاً معتدلاً. لولا النسيان لعاش الإنسان حياة مليئة بالهم والحزن، لولا النسيان لمات الإنسان.

ليفانت – معراج أحمد معراج الندوي

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!